اللوحة: الفنان السعودي عبد الله حماس
أيتها النفس، الانعكاس الأحمر للسماء.. من يقدر على كشف سرك ،سيكون في مقدوره أن يعرف ماهي الحياة وما هو الموت
(باشلار)
عقلي شاشة بيضاء، هكذا كنت عندما التقيت مُعلِّمي الروحي وكنت مستعدة طوال حياتي أن أمحو كل ما أعرفه لأتلقى الجديد ومازلت هكذا، وليتني أمحو كل ما كتبته من دماغي لأنتقل إلى وعي آخر حتى لو عدت به إلى ما قبل الفلسفات التي قرأتها، ما قبل التقائي (صاحب الشروط)، ثم (المُعلِّم الروحي) فالثبات عدم، والرجوع إلى الخلف خير من أن تظل هكذا واقفًا أو قابعًا في نفس الدائرة.
لم يعلمني أبي ولا (صاحب الشروط) الرجوع إلى الخلف أبدًا لكن حركة وجودي أثبتت لي أن التقهقر إرهاص بوثبة قوية.
وقف (المُعلِّم الروحي) بجوار الحائط خارج الاستديو عندما كنت أحكي له عن صديقة انتكست بعد أن ذهبت إلى الطبيب النفسي وكانت قد تحسنت قليلًا على يديه عند بدئها رحلة العلاج معه.
أخذ (المُعلِّم الروحي) يحرك إصبعه على الحائط وكأنه يرسم خطوطًا وقال لي: لو تقدمت صديقتك إلى الأمام مع هذا الخط فمن الذي سيكون قد أخذ بيدها فقلت له: الطبيب ، قال: نعم، عادت صديقتك إلى الوراء لتتقدم بنفسها، إنه إثبات حيّ لحركة وجودها هي لا وجودية الطبيب.
أهكذا يا مُعلِّمي..كان وقوعي في الموت، تعثري في الأخطاء؟.. قال: وفي الخسارة، لولا خساراتك الفادحة ما وصلتِ إلى هذه الجاهزية لأن تلتقطي الأفكار التي تعبر أمامك مهما كانت غريبة عليكِ.
قلت: إذن.. العقل يتسع بارتكابه الأخطاء، قال: والروح تتسع بوقوعها في الخطيئة.
- كيف؟
أخذ يشرح لي نظرية (البرسونة والظل) لكارل جوستاف يونج وكنت قد قرأتها قبل ذلك لكنني لم أستوعبها بهذا الوضوح إلاَّ عندما شرحها هو لي.
ما أعبس وأسخف من لا يخطئون، لم أحضر زواج أختي من الرجل الذي تحبه ولم أشاركها فرحتها لأنها أحبته وهي متزوجة من رجل آخر ومع أنني كنت أعرف ما لقيته من ذل وهوان على يد زوجها الأول إلاَّ أنني وضعت المبدأ أمام عينيّ فأعماني، كنت نبية وقتها ولم أخطئ ففقدت إنسانيتي.
لكن.. هل أعاد لي (المُعلِّم الروحي) إنسانيتي؟
مشوار طويل أذكره كما تمثلته في نفسي وقتها، كنت أرقبه من بعيد وأنا وحيدة ومنعزلة وكأن التحديق فيه هو تحديق في خوائي وعجزي. هذا الكائن الذي يضطرم بالحياة يذكرني بعدميتي.
ما أقساك يا مُعلِّم!!
كنت تدرك وقتها مدى الجحيم الذي أغوص فيه ومدى الألفة التي أشعر بها تجاهك ومدى الأمل في أن تنتشلني. لكنك اكتفيت بالنظر من بعيد وغضضت الطرف عن آلامي وظللت ترفل في الفرح أمام نفس وحيدة وعاجزة وكأنك كنت تعيرها بامتلائك بالونس والحياة. هكذا أصبحت أغار منه، لكنه لم يتوقف عند هذا الحد بل ظل يهدم فوق رأسي كل التصورات التي بنيتها عبر سنوات حياتي. وتصورتُ من جديد أن العالم يختنق. يا للرعب!!
لم أحك له عن موتي السابق لكنه أدرك أن كل ما أفعله وكل ما أقبض عليه إن هو إلاّ تهويمات حالم ميت، حتى علاقتي بابنتي الوحيدة ما هي إلاّ حبل من هواء، عقلي الذي انفتح لأفكار الوجود الخالدة إن هو إلاّ فقاعة، إبداعي الشعري مرض ناطق، تعاطفي مع المتألمين والجوعى وأصحاب الجروح شق عميق في الصدر.
- من أنا يا مُعلم من أنا؟..
- شوائب مادة
هكذا تعرف وجودي على نفسه مذ قابلت (المُعلم الروحي).. شوائب مادة.
أبعد كل هذا الصعود، بعد كل ذلك اللهاث بعرض رئتيّ؟، وثيقتي الإنسانية بين يديّ، وقَّع عليها كثيرون، بينما أنا شوائب مادة!!
“صديقتي الغالية.. الألم لا يُطاق والمشوار أقسى من السابق، أدركت أخيراً أنني شوائب مادة وأخشى أن آتي لزيارتك فتفتحين الباب ولا ترينني”.
كتبت هذه الرسالة لإحدى صديقاتي حيث بدأت أشعر أنني كتلة من الوهم وكل الأفكار التي جمعتها والتصورات التي بنيتها والمشوار الذي قطعته سقطوا جميعًا من وجود لا قعر له، فهمت أنني لم أستطع هضم أي شئ حقيقي في حياتي وتمثَّله.. حتى أبي وأمي وأصدقائي وابنتي كلهم وقعوا مني وأسماني المُعلِّم وقتها (بالوجود المثقوب).
فهمت لماذا أشعر بالعدمية طوال الوقت لأنه لا أثر لإنسيّ في داخلي، لماذا أتوهج بالأفكار عوضًا عن الحياة وأتبختر في الهواء لأن الداخل خفيف ولا يعرف كتلة المادة.
أخبرني المعلم الروحي أن النصاعة خواء وخفة الأرواح عدم، أخبرني أن الوعي العقلي الذي أعتز به كثيرًا حيث لا أملك غيره ما هو إلاّ حذاء أنتعله هكذا قال: “العقل جزمة، خادم رديئ، يتلقى أوامره من مجنون بداخلك لا تعرفه.
فهمت، فهمت يا معلم . العقل جزمة ولابد أن يكف عن العمل.
أخبرني أن الوعي يمثل ثلاثة بالمئة مما بداخلنا، فلماذا نعطيه كل هذه الأهمية، لماذا نتجبر ونزهو به وما لا يُدرك هو السبعة وتسعون بالمئة. كنت كلما كتبت بعض قصص البرنامج يوحي إليّ أنني أتقيأ ظلي، ذلك الظل الذي حكى عنه يونج العظيم، في نظريته (البرسونة والظل).
فهذه امرأة تحكي لي عن علاقاتها المتعددة وتقلبها بين الرجال وخيانتها المريعة لزوجها الطيب، تحكي عن السماوات الزائدة التي تحملها بين جنبيها وتجعلها تطير وراء مغامرات العشق ثم تنهبد بعد ذلك على الأرض شاعرة بالمرارة والذل. يقول المعلم الروحي إنها ظلي لأنني فقط كنت أستمع إليها بأريحية كاملة، ذلك ما ذكرته المرأة في الرسالة: “إنك الوحيدة التي تستوعبين ما أحكيه بسماحة”.
وهذه أخرى تكذب طوال الوقت وتخدع زوجها وأصدقاءها، توهمهم أن جنيًا يسكنها ويأمرها بإصلاح الكون فيأتمر الجميع بأمرها، يُطلِّق رجل زوجته ويكره أب أولاده وتهرب أم من أبنائها لأن المرأة المسكونة أمرت، تلك المرأة التي كانت تعض في الأرض بعد كل مؤامرة تحيكها وانتهى بها الحال إلى إشعال النار في شقتها.
هذه المرأة بالتحديد كانت على علاقة قرابة بي وقد فعلت معي ما فعلته مع الآخرين، سلبتني بعض أشيائي وأساءت لسمعتي بين من يعرفونني ومع ذلك ظللت أحتفظ بصداقتها. يخبرني المعلم بأنها ظلي.
- كيف يا معلم ولم أفعل هذا في حياتي.
- مادمتِ تحتفظين بصداقتها بعد كل هذا فأنت في احتياج إليها، إنها الداخل الذي عميتِ عنه، إنها المجهول والمعتم الذي هو بعض منك.
- إنني أكرهها يا معلم
- لأنك تكرهين بعض وجودك.
وبرغم تيقني وقتها من أنني لا أماثلها في شئ إلاّ أن امتلائي بفكرة الظل هذه جعلتني أصدق أن الداخل لديّ يحمل كل هذا الرعب، أن تلك المرأة تمارس الجنون الذي بداخلي ولا أستطيع الإعلان عنه، إنها القرين الأكثر وضوحًا وصدقًا، إنها الصورة الحقيقية لتفسخي أنا، وكيف لي ألاّ أصدق وأنا متمسكة بها إلى هذا الحد، ومرتعبة منها إلى هذا الحد وأكرهها إلى هذا الحد؟
يا ساتر يارب!! ألهذه الدرجة خرب ومهترئ هو الداخل لديّ!!
أيتها المرأة، أيتها الأفعوانة المدمرة التعسة، أنا شبيهتك فلقد دمرتُ حياتي وأشعلتُ النار فيها كما فعلتِ، وإن كان بشكل آخر، شكل يظنه البعض العكس تمامًا مما أنتِ عليه، لكن النتيجة واحدة، موت نفسي ورعشة وحشية أحملها في وجودي وأمضي.
يا توأمي وخرابي الداخلي، أنتِ الحقيقة الوحيدة التي في انتظاري، وبرغم كل مظاهر الحكمة والتعقُّل التي أنا عليها الآن إلاّ أنكِ تهددينني، يقفز إليّ الموت من التراب ليحملق في عينيّ، هكذا نحن جميعًا إن لم نتقبل ظلالنا، وأعتقد أنكَ الظل الوحيد من بين ظلالي الكثيرة الذي لم تواتني الجرأة على تقبله، مازلت أشعر بهذا الرعب كلما رأيتك، مازلت أرتجف كلما سمعت عن حماقاتك.
لم أكن أدرك شيئًا كهذا قبل التقائي المعلم الروحي لأنه ما من أحد دق المسامير في عينيّ كي يفتحهما مثل هذا الرجل. وقفت فاغرةً فاهي وكان الوجع يمتد إلى أول نطفة عصبية في دماغي، وشعرت أن المعلم الروحي يمعن في إحباطي، في تكسير قواعد وجودي فقررت التخلص منه إلاّ أنني لم أستطع، ففي كل شارع أمشي فيه، في كل أغنية أسمعها، وفي كل شخص أقابله، أجده عالقًا على حواف جمجمتي فأسأله ويجيبني: “حين يصل بك اليأس إلى أقصى مداه سوف تكفين عن الوجع”.
كنت أراه على صفحة النيل حين أركب الميكروباص على الكورنيش، أراه على أسطح البنايات وفي غرف بعيدة، مضاءة بمصابيح .
لم أكن أعرف وقتها لماذا أراه على أسطح البيوت إلاّ أنني وبعد قرون طويلة عرفت أن حلم اليقظة بالأعالي يحمل علاقة الصعود إلى وحدة أشدّ اطمئناناً كما يقول (باشلار). نعم لم أكن أملك سوى حلم يقظتي حتى خلت أنني أحبه، فالمصباح المضئ يمثل لنا الرؤية، المصباح يرى. كنت أعرف أن (المُعلِّم الروحي) يراني من الداخل لذلك تشبثت به فهو الذي أخبرني أيضاً أن سرّ الحب هو أن يُرى الانسان من داخله.
لكنه بمطرقة أخرى على رأسي أخرج المخبوء، أراني صفاتي الالتهامية التي تمضغ الرجال ثم تبصقهم.. قال لي بالنص: لن أكون ذلك الرجل الذي تلوكينه ثم تبصقينه. أهكذا أنا؟ أهكذا مضغت (صاحب الشروط) ثم بصقته، امتصصت أفكاره العميقة والتي أعمل بها حتى الآن ثم بصقته؟ أهكذا أيضاً مضغت (الرجل الدنجوان) أبا ابنتي ثم بصقته؟ كنت أعرف أنني أنا التي دفعته لخيانتي ثم تطليقي والغدر بي، بما لم أدركه دفعته. بنكران الذات وصور التضحية العظيمة وإهمال الجسد وكل تلك الصفات الكارهة للحياة.
لا أحد مسئول عما حدث لي إلاّي، لكنني لم أعرف أبدًا أنني أمضغ البشر ثم أبصقهم. كان (المُعلِّم الروحي) كما قلت مصباحًا يرى في الظلام. رأى الساكن العدمي في أعماقي برغم الحيوية والنشاط الذهني والفرح المتدفق الذي ألقاه به، عرف أن هذا الفرح هو الرغبة في الانقضاض عليه وتملَك الداخل الحيّ لديه، تملَك أسرار المعرفة التي جمعها عبر رحلته، لقد عرف أن هذا ليس حبًا بل رغبة في الالتهام.
.. حياتي ميتة من الجوع في الأسفل وحياته شبعى.. لا بل جائعة أيضًا ولكنها حية. هو قال ذلك: “أنا أصاحب الجوع لكنني لا أسعى إلى اشباعه فالوصول إلى الشبع موت”.
هكذا ظل يغريني بالألم لأقيم حياة ًمن العدم، لينتصب الإله الذاتي من الظلمة والفناء بين جنباتي. ما أقساه من طريق سرته دون أن يؤنسني ومع ذلك كان بالنسبة لي حارس الكون اليقظ، كان سببًا في كل ما رأيته بعد ذلك، لكنه قاسٍ كإله، حين أسقط سماواتي الداخلية وهبدني على الأرض.
- الأرض صلبة ومعتمة يا مُعلِّم
- أعلم
- الروح تعتم يا مُعلِّم كلما التصقت بالأرض
- الأرض ضوء الروح
- لحمي مفتوح يا مُعلِّم والأرض خشنة
- سوف يربي جلدًا فيما بعد
- الوقت يقتلني ومواعين المطبخ التافهة تفغر فاها لتبتلعني
- أشياء الأرض غريبة عليك ولابد أن تخيفك الآن..اصبري
- ابنتي تكره الحياة بسببي وتحاول الانتحار
- انجرفي في الحياة ودعيها لي.. سوف أخبط رأسها في الحائط كما فعلت معك
- أنت مثل الأرض خشن ومعتم
- ضوئي بداخلي لن أعطيه لك .. لديك مثله.. ابحثي عنه
بروح كليمة مشيت الرحلة وحدي ولم يرافقني.. كان قد أنجز رحلته قبلي أو مازال سائرًا، لا أدري.
هكذا كما يقول (شمس التبريزي) في رواية (قواعد العشق الأربعون) “لايوجه المُعلِّم الروحي انتباهك إليه ولا يتوقع طاعة مطلقة أو إعجابًا تاماً منك بل يساعدك على أن تقدِّر نفسك الداخلية وتحترمها”
كنت كلما قلت: أنت صاحب الفضل في سيري على الطريق والتئام جروحي يقول: الفضل لكِ، أقول: روحك المضيئة أضاءت روحي المعتمة، يقول: ليس هناك أرواح معتمة، أقول: أنا مبهورة بك، يقول: أنت لا ترينني فالانبهار عماء.
أبعد كل هذا لا أراك!! أبعد أن رأيت المرعب والمجهول لديّ لا أراك؟ أدركت أنني بعد كل ألف طريق أقطعه لابد لي من المشي مرة أخرى، أدركت أن الطريق الداخلي لا قعر له ولا نهاية ولا وصول .
ليس مكان في آخر الطريق
وليس طريق
أنت الطريق
نعم أنا الطريق والضوء ضوئي وإن أتاني من الخارج يعميني حتى لو كان ضوء المُعلِّم الروحي.
سجلت معه عشرات الحلقات، سوف أرفعها جميعًا على النت ليرى العالمين ضوءه، لكنني أقسم لكم أنكم لن تروا شيئًا إلاّ إذا أمسكتم بتلك الأفكار واندلقتم بها على الأرض وتبعثرت أشلاء وجودكم لتلملموها من جديد بعد أن تكون قد عُجنت بالماء والدم والتراب.
لن تفعل الأفكار لعقولكم شيئًا إلاّ إذا ركَّبتم لها عظامًا ثم كسوتم العظام لحمًا ثم تركتموها تئن على الطريق حين ينجرح اللحم وينزف الدم وتنكسر العظام أحيانًا.
هكذا علمتني قسوة إلهي الداخلي، إله لايرضى بالأفكار الجاهزة، المُعطى المجاني، الكسل الوجودي العنيف الذي يرزح معظمنا تحته.
انجرف مع الساعات
تحت الغروب والشروق تدحرج
لأنك لو عرفت بعقلك فقط سوف تشعر بوحدة مضنية، سوف تقبع في العجز تماما مثل (سارق النار) الذي ربطته الآلهة في صخرة على الجبل. هكذا يعيش العارفون بعقولهم فقط، الذين لم تمتزج أجسادهم بالدم والنار والتراب.
كان (المُعلّم الروحي) يقول لكل من يشكو خواءً داخليًا أو قلقًا روحيًا: امش، ابذل مجهودًاً بدنيًا، وسِّخ جسدك ثم نظفه. كان هو شخصيًا يصادق الحيوانات، يربيها ويتوسخ بروثها. الأرض مقدسة لديه لا السماء. كان يكره لفظتي (الطهر) و(النقاء) لأنه يكره العدم، كان يحب الإنسان بوساخته وشروره أكثر من الملائكة، كان يدعو الله قاسيًا ومؤلمًا لأنه يقدِّر عذابه فالإله لديه يعاني ويكدح ويضطرب ليتحرك الكون.
“إن صلاتى ليست نداء شحاذ، و لا اعترافات عاشق، و لا حسابات تاجر مقايضة صغير: وهبتك فأعطني.
إن صلاتي هى تقرير من محارب الى قائده: هذا ما فعلتة اليوم.
أنا و إلهى فارسان نسير تحت وهج الشمس الحارقة، أو تحت المطر، نتجاذب أطراف الحديث شاحبين، جائعين وعنيدين.
أناديه فيدير رأسه نحوى، وحين أرى معاناته تنتابني قشعريرة.
قاسية هي محنتنا”.
كانت مثل هذه النصوص لكازانتازاكس هي ما تملأ صفحته على الفيس بوك.
“الموت خير والحياة خير” قال لي هذا أيضًا عندما حكيت له عن حادث الغرق الذي تعرضت له ابنتي ولكني قلت بسذاجتي المعتادة:
كان الله لطيفاً عندما تركها لي، فأجاب المُعلِّم بقسوته المعتادة: وسيظل لطيفًا إذا أخذها منك.
هل انفصلت عن المُعلِّم حقاً؟ سوف أظل في دائرة التكهنات طالما أنني لم أُنجز هذا الكتاب لكنني اتخذت قراري بالانفصال عنه حين شرعت في الكتابة. أعتقد أنني لم أكن أستطيع أن أكتب عنه لو لم أُفطم نفسيًا منه. أرسلت له رسالة خاصة بهذا المعنى(الفطام) فأجابني بكلمة واحدة …”رائع”.
نتبع المسيرة الآن صامتين، لا أسأله عن شئ ولا يجيبني بشئ، أتركه للآخرين يتكلم معهم وأضحك، هم لايعرفون شفرته وأضحك، وأظل أقفز كراعية من كرسي لكرسي .
أعرف الآن أن الصيف حار والشتاء بارد والأشجار تبدو خضراء أحيانًا، أعرف أن أبي وأمي قد ماتا وأن الكلاب تنبح والأبقار تخور وأن العصافير خفيفة إلى الدرجة التي تجعلها تطير، وأيضًا أعرف أن الديدان تزحف إلى الجحور والبعوض يخرق الجلد والفراشات تحترق في الضوء، أعرف كل هذا وأكثر وما عدت بحاجة إلى سؤال.