اللوحة: الفنان السوري سمعان خوام
تشويش
على خلاف جميع الخلق, أصبحت أكره الأحلام, أفرّ منها للواقع, بات صحوي أفضل كثيرًا من لحظات نوم تتسلل على استحياء إلى عينيّ , فإن تساقطت جفوني من شدة التعب, تراقصت الصور بسرعة غريبة أمامي كأنما تقتنص الفرصة, ثم تتوالى خلف بعضها, سرعان ما تتضافر في حكايات من كل صوب,حتى أنّي غير ذات مرّة رأيت أحدهم وظننته طوال حياتي قدّيسًا.
رأيته ينزع عن نفسه قناع الحياء ويستبدله برداء الفجور، ساءني فعله, فأسرعت أواري سوأته عن الناس بما تيسّر حولي, راجعته في سلوكه , لكنه أشاح بيده, وكزني بقوة قائلًا: الحقيقة ساطعة أمامك من سنوات بعيدة, لكنّك استغشيت ثيابك ووضعت أصابعك في أذنيك, استكبرت,عاقبة المتكبّرين المتغافلين أن نأتيهم في نومهم, نؤرق ضمائرهم في صحوهم, حتى يتكشّف لهم ما كان واضحًا جليًّا.
فقاطعته بحدة: لم تفتح ليّ بابًا, بل نَزَعتَ حائطًا يخفي خلفه سراديب من عتمة، لقد بذلتُ جهدي, صنعت لنفسي نسخًا من مفاتيح كل شيء, حتى ظننت أنّي قد وضعت يديّ على كل سر كامن, استراحت نفسي لمنطقي, أزحت جانبًا أي منطق آخر يعارض ما انتهيت إليه.
هكذا سارت حياتي أو سرتُ معها, أرافقها حينًا, ترافقني أحيانًا, تضطرب الصورة بعض الوقت فأقول: لعّل عيبًا أصاب الإرسال, حتما ستهدأ الأمور ثم تفعل, لكن الحال لم يدم فعزوت ذلك لتصاريف الحياة التي لا تستقر على وضع.
والآن تأتيني في نومي وأحلامي, تُصّر على الزيارة ولا أرى منك إلّا كل مقزّز, , فلمَ وأنا لم أفعل بك شرًّا من قبل؟!
تلك المرة كان يرتّب حقيبة ظهره, يضع فيها ملابسه كلها, بنظام دقيق , ثم حملها على كتفه بعد أن استوثق من قفلها, وانطلق عاريًا ويقول والناس على الجانبين يؤمّنون على حديثه:لا تخجل من الحقيقة أبدًا حتى لو كانت عارية, فذاك ما يميّزها.
تزوير بمحرر رسمي
لمّا التقيته, كان يسير بمحاذاة سور مدرسة التجريبية للأعدادية بنين, طريق قصير كان متعة للسائرين قديمًا. كانت تظلّله أشجار عتيقة. يعج الآن بحفر ومطبات بعضه لا تلحظه إلاّ حينما تتعثر فيه, نُزعت أشجاره ولم يبق غير آثار خالية من الأوراق كالحة كشواهد قبور بالية، يخلو من المارة صباحًا إلاّ بضع أرامل يتكوّمن أمام بوابة مكتب البريد, وعسكري دَرَك نحيل الجسم, يلفّ حزامه حول وسطه, كمشنقة تحيط برقبة ضحيّتها. يأِسَ من مداومة نهر النسوة وإقناعهن بأن الصراخ لن يجعلهن يحصلن على المعاش مبكّرا!
عرفت صديقي هذا من سنوات قليلة. نشيط للغاية, وسيم على رغم خروجه على المعاش من فترة ليست بالقصيرة, هو على غير عادة أقرانه لا يزال يحتفظ ببريق الشباب, تلك اللمعة التي تطلّ من عينيه كلما عُرض عليه موضوع جديد.
ذلك الخجل العُذري الذي يكسي وجهه كلما تَدَحرَجت إلى أذنه غصبًا كلمة نابية, استقامة عوده أثناء المشي حتى ظننت عندما رأيته أول مرة أنه أحدث تزويرًا بمحررات رسمية وزاد من سنوات عمره فوق حقيقته.
حيّاني “سامي حنا” من بعيد, كان يحمل بيديه مجدافين من خشب, تحطّما إلى أربعة أجزاء, كان يقبض عليها بيديه بقوة لا تناسب عمره. لعلّ ذلك سبب إلقائه التحية بإيماءة من رأسه!
أسرعت إليه, راغبًا في مساعدته, لكنّه سبقني ببشاشة وجهه, قال: كنت بطريقي إليك, الشكر لله أنّي قابلتك الآن. اختصرت الوقت والجهد يا عزيزي, ثم ألقى إليّ ببضاعته الخشبية المحطّمة فسقطت تحتي قدميّ. بينما انطلق عائدًا من حيث أتى, يلوّح بيديه الاثنين في الهواء كأنما يخبرني والعالم كله أنه أصبح قاب قوسين..