سر الإنسان

سر الإنسان

فردوس عبد الرحمن

اللوحة: الفنان النمساوي إيغون شيلي

“لكن الموت في الداخل لأن الفكر الشرير لم ينضج بعد ويتحول إلى عمل”

(إنجيل يوحنا)

لماذا أنا مهتمة بسر الانسان .. لماذا أريد أن أعرفه؟

عبر سؤال شخصي، يتشكل كونك من جديد، وكلما حصلت على نطفة من إجابة، أضفتَ حجرًا إلى بنائك.

أعتقد أن هذا يكمن فى فعل الحب. فعندما نحب شخصًا نرغب فى معرفته، وإذا أحببنا الحياة لابد من معرفة كنهها.. أما حبنا لأنفسنا، فهو الذي يدفعنا إلى  فهم ذواتنا. ومن ثم الامتلاء بالوجود من حولنا.

 الحب هو الرغبة في الوصول إلى السر، والنفاذ إلى النواة.. نواة الكون والوجود. الحب هو وجودنا الشخصي وبه نصير نواة الكون. أنا أكتب الشعر بهذا الوعي، وأقدم برامجى الإذاعية بهذا الوعي، وأُقْدِم على تلك المغامرة فى الكتابة بالحب أيضًا.. 

و الآن: علىً أن أعيد تصوراتي، ترتيب ذاكرتي قطعة قطعة، استدعاء أرواح والحوار معها.

ليس بغرض التحليل النفسي الفرويدي لمعرفة العقدة وحلها، بل لمعرفة سر تكويني الأول وهكذا فى قصيدتي “هنا مقعد فقط”  أحايل أمي المتوفاة لمعرفة سرها، والذي يفضي ـ بالتأكيد ـ إلى سري. ليس بالمعرفة العقلية، التى لا تصل ـ وحدها ـ  إلى السر، بل بفعل الحب. لذا كتبت شعرًا لمعرفة هذا السر. هنا تكمن فضيلة الفن . الفن ـ أيضًا ـ معرفة، ولكن من نوع آخر، هذا النوع الذى سوف أتحدث به طوال الكتاب، نوع يخاطب المستويات العميقة والمجهولة بداخلك، إذن فالفن أيضًا حب، يظل يبحث عن السر.

 أقول لأمي:  لماذا ظننت أنك لم تحبيني أكثر.. مع أنك تركت قلبك الضعيف لآكله، وكانت آخر كلماتك تخصني وحدي. ألم تحكِ للملائكة أمامي أن روحي حصان يفر من الوقت؟

أنا لاأخجل أبدًا من اللجوء إلى الميتافيزيقا مع أن عقلي الموضوعي.. يعمل كحفار، يلهث في غمرة بحثه المحموم عن السر، لكنه لم يصل أبدًا إلى شيء حقيقي وعميق.

لم أعرف مثلًا: لماذا ظللتُ طوال عمري أعاني من العدمية والاكتئاب؟ لماذا أحببت هذا؟ ووقعت في غرام ذاك؟ لماذا فقدت وجودي ووقعت في موت حقيقي بعد أن تركني زوجي الأول؟ 

 نعم موت حقيقي كنت لاأشعر فيه بالسعادة ولا الحزن أو القلق أو الهمة لفعل أى شيء، كنت أشعر بروحى مثلجة زرقاء، جثة مخيفة أحملها وأمضي. ضحكتُ على كل الناس وأفهمتهم أنني حية أرزق.. ولأنه كان لي جسد أنثى، ظنوا أنه من الممكن الوقوع في غرامي.. لديّ الآن رغبة عنيفة في الاعتذار لكل من قابلوني في ذلك الوقت والاعتراف أنني خدعتهم جميعًا. فلم أكن أنثى ولا أي أحد على الإطلاق.. لم أكن موجودة أصلًا. عاشوا جميعًا في وهم وجودي، إلاّ ابنتى وكان عمرها ثمانى سنوات، عَرَفَتْ أن التي تعيش معها ليست أمها، التي تأكل وتشرب وتخرج معها ليست أمها.. قالت لى مرة: إنها في تلك المرحلة كانت  تعيش ” فيلم رعب” وترقد بجوار جثة. كانت تضع جبهتها على الأرض وتدعو: “هاتلى مامي تاني يارب.. صحيها”

 لم أبدأ في هذا الكتاب إلا عندما أحسست أن كل شئ يلمع في ذهني.. الأفكار التي دارت حولها كل تصرفاتي وتصرفات الآخرين تجاهي، الخواء الذي امتلأت به عروقي، ضحكات الأصدقاء على هذا اللفظ (خواء) وكانوا لا يعرفونه في مدينتنا الصغيرة عديمة التجارب، كانوا ينظرون إليه على أنه لفظ من اختراعي، لذلك أحسست أنني وحدي في هذا العالم.

سوف أذكر في هذا الكتاب كيف يكون وجود الإنسان مثقوبًا بلا قعر، مفتوحاً على الهاوية ، يصفر فيه العدم، وبهذا أحذر الأحياء من الموت الصاحي، الموت الذي يتقافز في أرواحنا إذا نحن خايلناه بازدرائنا لأنفسنا.

سوف أكتب عن الرعشة الوجودية، عن التناثر والانسحاق تحت وطأة الأفكار والتصورات المضللة، عن الطعام ورائحته وكيف أنه يدشن الوجود الانساني، عن الحب وأحواله، عن الجرح الذي يودي بالإنسان إن لم يعتن به ويحرص على التئامه.

أنا أكتب الآن لأقترب من ذاتي وأتذكر تاريخها كله، أكتب لأردم الهوة بين ما أعيشه وما عشته سابقًا، كي لايموت الماضي، لأن به أرواحًا غالية لا أريدها أن تتعفن بداخلي..

كل شئ صرته ينبغي أن يكون حيًا لأرى ديمومة الحياة 

أكتب لأصارع السرطان الذي أصابني مؤخرًا، أنا ألغي الموت في هذا الكتاب وبرغم أنه فسيح جدًا ” الموت فسيح جدًا ” كما يقول وديع سعادة، إلا أنني سوف أوقظ كل أجدادي، لا ليتحدثوا معي، بل ليخرجوا من بين أسناني ومن خلاياي ومن تحت جلدي.

أحاول الاقتراب من لغتي، ولا أرى سوى الحي فيها، ولا أتكلم إلا به لأنه لن يخلصني سوى الحي، الطازج الجديد.. آه يا مخلًصي الحي!!

هنا أحاول أن أفهم الله بشكل أفضل.. الله الذي بداخلي، لأن الإله الخارجي لا يسمع ولا يكلمني أبدًا.

في هذا الكتاب أحترم القسوة وأبجل التفاهة، أزدري الشفقة والتضحية، أحاول أن أمسك بخيط الأرواح:

ما الذي فعله فيَّ صاحب الشروط؟

أين تختفي الجثة الزرقاء؟

من هي صاحبة الشعلة؟

ماهو التضخم؟ ذلك الجب الذي يسقط فيه المرء فيفقد حياته

كيف تصل إلى مرحلة المخاض؟ 

ألم الذات المقدس حين تلد نفسها كيف اكتشفت معلمي الروحي؟ 

المعلم الروحي هو العلامة التي نجدها في طريق الرحلة المقدسة.

كيف وصلت إلى السر؟ مع الرجل الذي من لحم ودم.

أحاول أن أعرف هل الحقد هو الأب القاسي للحب؟ هو البداية الحزينة والبشعة التي تفتح وتهيئ طريق الحب كما يقول كازنتازاكس؟

“لما قال هذا.. صرخ بصوت عظيم.. لعاذر.. هلم خارجًا، فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل فقال لهم يسوع: حلُّوه ودعوه يذهب”.. إنجيل يوحنا.

صحوت من موتي على شعور عنيف بالغيظ.

كنت ضامنة لقرض أخذه زوجي، كان عليه أن يسدد للبنك ليحفظ لي مرتبي الذي أعيش به أنا وابنتي، بعد طلاقي، أغراه موتي أن يتوقف عن السداد، فحجز البنك على مرتبي بحكم المحكمة، وعندما ذهبت لأطالبه بالسداد، طردني، فليس للموتى حقوق. وجدتني أصرخ فيه. 

عدت إلى بيتي وأنا أشعر بالغيظ، لكنني فجأة انتبهت:أنا أشعر بالغيظ .. أنا أشعر.. أنا أشعر.. أنا لست ميتة .. دخلت الحمام وجلست على البلاط وصرت أهذي: أنا أشعر، أنا أغضب، أنا أغتاظ، أنا حية.

 في هذا الوقت كنت متزوجة من الرجل صاحب الشروط. كان نائمًا في تلك اللحظة، عندما استيقظ  ورآني على هذا الحال ارتعب، صاحب الشروط دوماً يرتعب. ربّت على كتفي وهو على مسافة مني، ثم نادى على ابنتي مستغيثًا،اقتربت ابنتي واحتضنتني ثم نظرت إليه تطمئنه.. نعم إنها ليست خائفة مثله.. هي عاشت مع تلك الجثة سنوات وتعودت على لمسها واحتضانها.. هل عرفت ابنتي وقتها أنني كنت أصحو من الموت؟

خرج (صاحب الشروط) مرتعبًا من البيت، قال لي بعد سنوات من طلاقي منه.. إنه خرج حافيًا، منكوش الشعر وذهب إلى محطة السكة الحديد ليسافر لأهله.

 لست ليعاذر الذي أقامه المسيح بعد أربعة أيام من موته، لم أعد جثة منتنة أيها الرجل، جسدي كان قد تحلل منذ سنوات ولم يعد منه بقية، أنا العزير الذي أقامه الرب بعد أن مات مئة عام، لأنه ارتكب الخطية في فكره وحده.. أنا العزير وفي صدري كل الكلام..  أقوله لكم الآن..كي لاتقعوا مثلي في خطيئة التصورات، كي لاتموتوا في الداخل.

هامش:

العزير هو حامل كتاب الله في القصة القرآنية وكان يعيش في أيام ظلم وفساد حيث وجود ملك ظالم يريد أن يقضي على كل مؤمن، فدخل العزير قرية خاوية على عروشها وقال: أنَّى يحيي الله هذه بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم أحياه ليبلِّغ الكتاب.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.