صبحي السلماني
اللوحة: الفنان المصري صلاح عناني
من علو وأنا أتطلع إلى هامات الأشجار المتهادية بدلالٍ أغصانها، لا أعرف كيف سمحت لي نفسي أن أسخر من جارتنا المتعرية بعد أن صفعها ريح كانون، والمجردة من كل ما من شأنه أن يسر الناظر إذا ما نظر.
كنت منتصباً وشامخاً حد الغرور، أشدو مع الطير وأرقص جذلاً وحيثما مالت الريح أميل.
للفلاح فأس لم تصمد طويلاً أمام شأفتها ياصغيري…. قالت!
كيف لمخلوق مكب الرأس على مسحاته ليحدد مسار المياه المتدفقة في السواقي أن يمد بصره إلى فوق…؟ كان ردي.
وحين مدّه، أطاحت شأفة فأسه التي لا تخطئ بكل ما هو شامخ وعلى رأسهم أنا.
بعد التهذيب، تحولت من غصن مفعم بالحيوية إلى مجرد عود تافه ضمن حزمة أعوادٍ لا تقل عني تفاهةً.
آلمني كثيراً هذا التحول لكن، ليس في اليد حيلة لأنني كنت أعرف بأن مجرد اقتلاعي من حضن أمي سوف يجردني من كل ما من شأنه أن يجعلني سعيداً، وعلى سبيل التأسي كنت أقول: (حشرٌ مع الخلان عيد).
حملنا على ظهره وتوجه إلى داره بعد أن أحكم ربطنا سويةً بحبل متين.
هناك أفردنا كلاً حسب مواصفاته ليحدد أسماءنا ووظائفنا:
القصيرة والنحيفة، عصي تبختر… تناسب العسكر.
القصيرة والأقل نحافةً هراوات… تناسب رجال الأمن.
الطويلة والنحيفة، لوى أعناقها على شكل دوائر وأنصاف دوائر ونشرها على سطح الدار بعد أن ثبتها بأسلاك معدنية لتصبح فيما بعد بواكير يحتاجها كبار السن.
بقينا اثنان، أنا وآخر، هو يتفوق عليّ بالطول ويصلح لأن يكون يد مسحاة، وأنا أتفوق عليه بالرشاقة ولا أصلح لأي شيء!
لأي شيء؟! يا للعار! لم يدر بخلدي يوماً بأن حياتي ستكون مكللة بكل هذا الفشل!
حين جَفّت البواكير وأخذت قرارها، حملنا الرجل على ردف دابة وتوجه بنا إلى السوق المعنى بتلك الأشياء، بيعت جميعها إلا أنا بقيت راقدا على قلبه حتى المساء، وحين لملم أدراجه وهم بالانصراف، باعني بثمن بخس إلى رجل من أهل البادية صعب المراس شديد العصا، وعلى قدر ما حبته الطبيعة القاسية من جلافةٍ وسوء خلق، ما أن وصل خيمته الكائنة في عمق صحراء شاسعة القفر، وخالية من كل ما من شأنه أن يذكرك بالحياة، بكل ما تحمله السادية من معنى، استخدمني وسيلة بطش بحق كل ما يحول بينه وبين تحقيق نزواته الغبية.
وهو يلوّح بي في وجه الحمار وعينه على زوجته: سوف أجعل هذه العصا تلعب على ظهرك… هل سمعت يا حمار؟!
عصا…! أصبحت عصا إذن!
وأنا الذي لم أرض بتغيير اسمي من غصن إلى عود، كيف لي أن أرضى بتغيير اسمي وجنسي مرة واحدة!
لكن صدق من قال: (الذي لا يرضى بجزة، يرضى بجزة وخروف)!
ولكي يبر الرجل بوعده، ما إن انفلت الحمار من مربطه وأخذ طريقه إلى حمارة الجيران المستعصمة في مربطها، حتى لَعبتُ على ظهره، ومن ثم على ظهر الزوجة باعتبارها جزءا من المشكلة، كونها لم تربط الحمار كما ينبغي له أن يُربط، وبطبيعة الحال اللعب على ظهور الحمير ليس كالعب على ظهور النساء، الحمير تنفض رؤوسها وترخي ظهورها للضرب، والنساء تقابل الضرب بالتأوه والدموع!
وبصراحة لا أخفي عليكم صرت أشعر بالعار حين وجدت بصماتي قد طبعت على ظهر تلك الزوجة البائسة! لكن، ما أن أتى المساء حتى تم تسوية الخلاف، ولا أدري لماذا لا يتم تسوية الخلاف بين الأزواج إلا وقت المساء! يقولون إن (كلام الليل مدهون بزبدة)!.
وفي واحدة من جولات اللعب الأكثر عنفاً، تشظيت على ظهر الحمار وانقسمت إلى نصفين، الأمر الذي أحزن الرجل كثيراً وجعله يفقد السيطرة على إيقاع تصرفاته، وهو يحمل نصفيَّ كل بيد قذف بنا في حضن المرأة: خذي، ضعيهما في……..!
كلام يندى له الجبين!
بصراحة لم أنزعج من صفاقة الرجل بقدر انزعاجي من جُبن تلك المرأة!
أي إذلال وأي خنوع هذا!
وكالعادة، ما إن أتى المساء حتى بدأت التفاهمات والمساومات تجري خلف الكواليس، اتفقا على أن أحد نصفيّ يصلح لأن يكون يدا للرحى والنصف الآخر يدا للميجنة لأن كلاهما بحاجة إلى تغيير.
الأمر الذي أربكني كثيراً كوني أمسيت بهمٍ وأصبحت بهمّين، فلا أدري أتكلم أنا، أم أسمح لنصفي الآخر أن يتكلم، وكوني صرت من نصيب الميجنة سوف أسمح لنصفي الآخر أن يتكلم: حين همّوا بوضعي في عين الرحى تبين أن العين واسعة ولا تتناسب وحجم رأسي الصغير، الأمر الذي جعلهم يستعينوا بالقار والخرق البالية لتلافِي المشكلة، ورغم أن العملية برمتها مدعاة للاشمئزاز والقرف، لكن ما كان ليكون أفضل من الذي كان، المهم إنني أخذت قراري وأصبحت جاهزاً للعمل، وعلى سبيل التجربة، أحكمت الزوجة قبضتها عليّ ودارت الرحى، وكان لدورانها وهي تحتك بالشق السفلى أنين يشبه أنين النواعير في قريتنا، الأمر الذي أثار شجوني وجعلني أتذكر خرير المياه ونقيق الضفادع وحفيف الأشجار، وجارتنا التي جردتها رياح كانون من كل ما من شأنه أن يستر عريها، وأمي التي انتزعني الفلاح بشأفة فأسه من حضنها.
وفيما بعد، حين تكون الزوجة في حالة وئام مع زوجها ومزاج يسمح لها بالغناء تغني أغنيتها الأثيرة:
ماگلتلج يا يمه على الرحى عينيني
مدري الرحى ثجيله مدري العشگ راميني
لكن، حين تكون بمزاج سيء وحالة خصام مع زوجها، وهي تشرب دموعها تدندن مرثيتها الحزينة التي لا يمكن أن تصدر إلا عن قلب مكلوم:
ما تنسمع رحاي بس إيدي أتدير
وطحن بگايا الروح موش اطحن شعير.
ولكيلا أذهب بعيداً عن نصفي الآخر الذي ربما تأخرت عليه:
من حسن حظي إنني لم أكن بحاجة إلى القار ولا إلى التهذيب وهم يخلعون اليد القديمة لأحل محلها.
وكونها تنتمي إلى نفس الجنس الذي أنتمي إليه، وأنا أغوص في أعماقها، حَنَت عليَّ كما تحنو الأم الرؤوم على صغيرها قالت: نحن معشر المياجن عناصر غير فاعلة وكسولة، لأن المهام التي نقوم بها طفيفة جداً إذا ما قورنت ببقية المهام التي يقوم بها غيرنا، نساهم في خلع الأوتاد حين يرحلون وفي تثبيتها حين يحلون، هذا كل شيء.
وكونهم انتدبوك لهذه المهمة فأنت محظوظ لأن الذي على مقاسك يصلح أن يكون وتد وفي هذه الحالة يجب أن تهيء نفسك للطرق وهناك فرق بين الطارق والمطروق!
صمتت قليلاً ثم أضافت: أقول لك _والكلام بيننا _ وجودك هنا أفضل بكثير حتى من أن تكون يدا للرحى.
- لكن يد الرحى هي نصفي الآخر يا أمي!
- هنا، لا أحد يهتم بأحد، كل يهتم بنصفه!
وأنا اصغي إلى كلامها اقتنعت أو كدت اقتنع بأنني أفضل من غيري، أن أكون يد ميجنة ليس بالأمر السيء، لكن الذي أزعجني وجعلني أشعر بالغثيان هو كلب الحراسة حين رفع قائمته الخلفية وتبول علينا، وحين لاحظت امتعاضي قالت: لا تبتئس يا صغيري لأن هذه العملية سوف تتكرر كل يوم، وإن الكلب ما كان ليفعل ذلك إلا ليجعل منا حداً فاصلاً لمنطقة نفوذ غير مسموح للكلاب الأخرى أن تتخطاها، وهذا شرف ما بعده شرف!