ليزا زغلول
اللوحة: الفنان الإيرلندي ويليام جون هينيسي
كان خذلانٌ عميقٌ سلب روحها فأصبحت أشبه بهؤلاء الموتى المتخبطين بالطرقات، إن قابلتهم أسرتك ملامحهم الهادئة التي تقصُّ عليك بصمتٍ تعابير حزينة فتكت بأرواحهم فسلبت منهم ابتسامتهم الصادقة، وما يحاولونه الآن هو رسمُ ابتسامةٍ تتماشى مع الواقع كي لا يتم وصفهم بالكآبة والحزن.
استلَّ معطفه وهبط الدرج مسرعًا إلى أن وصل للعربة التي انطلق سائقها نحو وجهتها المحدَّدة مسبقًا، وصل قبل دقائق قليلة فـبالكاد تمكَّن من اللحاق بالطائرة قبل إقلاعها.
مرَّت ذكريات الأيام الماضية بمجرد أن أغلق عينيه الكثير من الأيام مضت ومازالت تلك الفتاة التي سرقت قلبه مختفيةً، لم يرها سوى بضع مراتٍ كانت صُدفًا لم يخطط كلاهما لها، ولكنها نجحت في سلب عقله وأفقدته اتزانه ورجاحته برقِّتها وبراءتها الهادئة التي لم تعد من صفات فتيات هذا العصر التي يتَّسِمنَ بتصيِّد الفرص للإيقاع بالفريسة المناسبة للزواج، لم يكن يعلم عنها سوى اسمها الذي صادف وسمع به من أحد المتواجدين، وما لبثت أن اختفت فجأةً بعد بضعة أيام فانقلبت حياته رأسًا على عقب ابتداءً من عبوس وجهه وملامحه الغاضبة ولسانه الفظِّ الذي أصبح ينهر كل من يقوم بارتكاب أيّ خطأ حتى ولو بسيطًا!.
خطت قدماه مطار الغردقة الدولي فكان بانتظاره (حسام)، صديقه المقرب الذي أصرَّ على استضافته في قريته السياحية الخاص فقام بحجز جناحٍ خاصٍ لصديقه منذ أن هاتفه ليستفسر منه عن مكانٍ ما بالقرب من قريته يدعى (مكادي).
ظلت ابتسامتها تطاردهُ في ليلته الأولى منذ أن أغمض جفنيه؛ فلم يحصل علي نومٍ هادئٍ تلك الليلة، فاستيقظ مع بزوغ أشعة الشمس وارتدى ملابسه وترجَّل من غرفته قاصدًا البحث عنها.
من يراه وهو متلهِّفٌ لرؤيتها لا يصدق أنَّ ذلك الشاب تتساقط حوله الجميلات طمعًا في أن ينلن رضاه! ولكن يبدو أنَّ هناك من سلبت عقله وباغتت نقاط قوته، انطلق إلى ذاك العنوان الذي أخبروه به، ظنَّ للوهلة الأولى أنها تعمل في ذلك المكان وفقًا للمعلومات التي زوده به رجاله، ولكنهم كانوا مخطئين فملكية هذا المكان تعود لأحد أصدقائها.
دخل إلى المقهى فوجد العمال مازالوا يقومون بأعمال التنظيف، فتيقَّن أنَّ الوقت مازال باكرًا.
ضرب مقدمة رأسه بكفِّ يده وحدَّث نفسه قائلا.
“لقد تسرَّعت في الحضور باكرًا، ولكني كدتُ أجَنُّ يجب أن أعثر عليها”.
تنحنحت تلك الواقفة بجواره على بعد خطواتٍ، فانتبه إليها لتباغته بالسؤال:
عذرًا منك، ولكن هل تبحث عن شيءٍ ما فقدته هنا؟!
تصبَّب عرقًا وشعر بأنه تم كشف أمره؛ فهو ليس خبيرًا باقتفاء أثر الفتياتِ، لم يفعلها سابقًا!.
لاحظت التوتر البادي على ملامحه، فأشارت بيدها لأحد العمال أن يحضر كوبًا من العصير الطازج له، وعرضت عليه الجلوس والتحدُّثَ بالأمر. وافق حينما رأى سُلطتها على المكان وطاعة العمَّال لها؛ فظنَّ أنها ربما تترأس عملًا ما هنا جلس واضعًا ساقًا على الأخرى في غرورٍ وزهوٍ يتنافى مع وضعه السابق؛ فقد علم للتوِّ أنها مالكة الـ (كافية)، وأنَّ تلك الفتاة التي يبحث عنها هي صديقة أختها، نظرت إليه بتعمقٍ، حاولت أن تستنبط أيَّ شيءٍ من مظهره ولكنها عجزت فقررت أن تسأله:
اعذرني، ولكن من أنت؟ ولمَ تبحث عنها؟!
جلس باعتدالٍ أمامها مرة أخرى وقال:
(زين العَدوِي)، صاحب مجموعة شركات (العدوي لهندسة الإلكترونيات) تركت شيئًا ما خلفها ذات مرة وأودُّ أن أعيده لها.
تعالت ضحكاتها؛ فاكفهرَّ وجهه وتحوَّل للون القاتم الذي بدا جليَّا مع بشرته المائلة للون القمحي، لاحظت تغيُّره فاعتذرت منه بسرعةٍ واعتدلت في جلستها وقالت:
اعتذرُ منك، ولكن أتعلم كم الذين يأتون للبحث عنها؟ هي لا تقرأ الطالع ربما فقط تكون نبَّهتهم لأشياءَ مرُّوا بها أمامها وعندما حدثت ظنوا أنها تتوقع المستقبل، أعلم أنَّ الأمر أيضًا حدث معك، يبدو الأمر جليًّا على ملامحك وتصرفاتك.
رأى أنه لا حاجةَ لمجادلتها فقال:
حسنًا، ما حدث شبيهٌ بما تقولين أخبريني أين أجدها؟
فأرسلت إليه موقعها وطلبت منه أن يتبع تلك الخريطة وصل إلى المكان المقصود، فلم يجد سوى بضعةٍ من كراسي البحر المتراصة بالأرجاء دون وجود أحدٍ، وكوخٍ صغير ظنَّ أنها ربما تمكث به، فطرق بابه عدة طرقاتٍ ولم يأته ردٌّ؛ ليتيقن أن تلك الفتاة خدعته فقرر العودة لمواجهتها وقبل أن يستدير ليعود أدراجه تلقَّى ضربةً على رأسه أفقدته وعيه!
يشعر بألمٍ شديد يجتاح جسده ويتركَّزُ بمنتصف رأسه، يستشعر عطرها بالمكان ولكن الألم يمنعه من التركيز؛ فجسدُه أشبه بالمُثقل بحجارة في أعماقٍ البحر، ظلَّ يعافر إلى أن تمكَّن من فتح عينيه فرأى المكان يعجُّ بالظلام لا ضوءَ به، شعر بصوت أنفاسٍ متضاربةٍ بأحد أركان الغرفة؛ تملَّكه الخوف ولكن سرعان مازال ما أن تبيَّن ملامحها، فأغلق عينيه واستسلم مجددًا.
أفاق بعد عدة أيامٍ ليجد نفسه ملقىً على الشاطئ، فتحامل على نفسه ليصل للطريق ليتمكن من العودة إلى الفندق، وصل إلى الطريق بعد جهدٍ كبيرٍ، أخذ يشير إلى السيارات بكلتا يديه كي يتوقف أحد فيقله للفندق ولكن لا أحد يتوقف، ظل قرابة ساعتين ونصف هكذا إلى أن خارت قواه فقرر عبور الطريق للجهة الأخرى، وبالمنتصف توقَّف، شعر بنغزةٍ في قلبه تباغته فوضع يده مكان الألم وإذا به ينظر لذاك الضوء المسلَّط نحوه من السيارة القادمة باتجاهه؛ فازدادت ضربات قلبه ووقع أرضًا مغشيًا عليه.
أفاق مرةً أخرى ليجد أنه بالمستشفى ومغروزة بيده تلك المحاليل البغيضة التي طالما كان يمقتها، وبجواره صديقه الذي تبدو ملامح القلق جليَّة عليه.
حاول النهوض فسارع صديقه إليه وهمَّ بمساعدته ولكن إشارةً منه كانت كافية لإيقافه، تحامل علي نفسه وتمكَّن من الجلوس، أغمض عينيه من شدة الألم الذي يجتاح جسده، ولكن صديقه لم يمهله الوقت الكافي للراحة وانقضَّ عليه بسيلٍ من الأسئلة مما أغضبه بشدةٍ فطلب منه التزام الصمت.
انقضى بعض الوقت على الصمت الذي خلَّفه (زين) بإحراج صديقه، إلى أن دلف الطبيب لفحص (زين) وتساءل عن سبب تواجده بتلك المنطقة، شعر (زين) بأنَّ الجميع أصبحوا فضوليين فجأة؛ فقرر إشباع فضولهم ليريح رأسه فقال:
كنتُ أبحثُ عن شيءٍ ما.
فتبادل الطبيب و(حسام) نظراتٍ غامضة وأكمل فحصه وخرج مسرعًا، نظر زين لصديقه الذي سرعان ما تفادي النظر إليه، ليتنبه زين أنَّ صديقه قد أصابه الحزن بسبب تلك المعاملة.
فاعتذر منه، فرقَّ لحالة زين ونظر إليه بعينه المرهقة قائلًا:
– اعذرني يا زين، كنت سأجَنُّ من القلق ياصديقي، أخبرني عمَّ كنت تبحث في تلك المنطقة الغريبة؟
– حسنًا كنت أبحث عن فتاةٍ رأيتها صدفة أكثر من مرةٍ وعلمت أنها هنا؛ فذهبت للبحث عنها فأخبرتني صاحبة الكافيه بمكانها، وعندما وصلت.
توقف زين عن الحديث محاولًا استرجاع ما مرَّ به، ولكنه لم يتذكر شيئًا كأنَّ أحدًا عبث بذاكرته.
ليسأله صديقه:
وماذا حدث بعدها، هل تذكر كيف أتيت للمستشفى؟
حاول زين مراجعة الأمر بذاكرته، ولكنه أخفق فلم يتذكَّر سوى أنه كان بحالةٍ يرثى لها، متعبٌ ومنهكٌ وكان يعبرُ طريقًا ما
تنهد صديقه بعمق وقال له:
إذن دعني أكمل لك ما حدث معك. أنا لا أعلم إن كانت تلك الفتاة التي تبحث عنها موجودة أم لا، ولكنك تخطيت حدود الطبيعةِ ودخلت لأرضٍ شبهُ مُحرَّمٍ دخولُها؛ فقد تمت بها جريمة قتلٍ ذاع صيتها منذ ما يقرب من عشرين عامًا، ولا أحد يتجرأ على دخولها أو التوقف أمامها، أجهل ما حدث لك بداخلها ولكن ما أعلمه أنك كنت على الطريق المقابل لها حينما كان يمرُّ ذلك الطبيب الذي خرج للتوِّ من هنا، فسقطت أنت فاقدًا وعيك أمام سيارته فخاطر بحياته وتوقف لإنقاذك.
شرد زين مرةً أخرى متذكرًا ذاك الشاطئ والكراسي المتراصَّةَ عليه والكوخ الخشبي، ولكن لا شيء بعد ذلك. فأخبر حسام بأنَّ الأمر لم يكن به شيءٌ مريب.
أراد حسام أن يُنهي تلك المناقشة؛ فنهض وربت على كتف زين وأمره بالراحة، وأخبره أنه سيعود في المساء لاصطحابه للفندق.
سرعان ما انقضى النهار وأتى حسام لاصطحابه إلي الفندق وأوصله لغرفته، وطلب من زين أن يحصل على حمامٍ دافئ إلى حين إحضار الطعام.
تناولا الطعام سويًّا وخرج حسام لإدارة أعماله، فخفَّض زين إضاءة الغرفة وأغمض عينيه وسرعان ما غفا
رآها أمامه يصاحب حديثها أصواتُ الأمواج وهي تنظر إليه وتحذِّره بشدة ألَّا يأتي إلى ذاك الشاطئ مجددًا حيث قالت له:
“سأتركك ترحلُ تلك المرة، ولكن لا تتجرأ على القدوم مرة أخرى”.
أخذت تبعد خصلاتِ شعرها المتمردة عن وجهها وترفع إصبعها محذرة إياه من القدوم مجددًا إلى أن اختفت من أمامه واندمجت بقرص الشمس الذي كان على وشك الرحيل هو أيضًا.
تنهَّد بعمقٍ وأفاق على يد أحدهم وهي تتفحص جبينه؛ فقام منتفضًا ليجده حسام يتفقَّد حرارته، فهدأ قليلًا وقصَّ عليه ما شاهده فتعجب حسام وسأله:
– هل حدث ذلك معك بالفعل أم هو محضُ تخيُّلاتٍ؟!
– لا أعلم، أشعرُ كأن أحدًا ما قام بحذف ذاكرتي، لست متأكدًا.
نظر إليه حسام، وتحدَّث بهدوءٍ قائلًا:
دعك من كلِّ ما حدث وانسَ الأمر، لا تخاطر ثانيًا؛ لم يجرؤ أحد على دخول تلك المنطقة بسبب ما يُذاع من أخبارٍ عنها.
حرَّك رأسه موافقًا إياه على ذلك الأمر.
انقضى الوقت وذهب كلُّ منهما ليغفو، استيقظ زين وهو يشعر برعشة تسري بجسده يشتم عطرها حولها فحاول إجبار نفسه على أنَّ الأمر تهيؤاتٌ ليس إلا؛ فقام بفتح نوافذ الغرفة وسرعان ما اختفى عطرها.
هبط للأسفل للحصول على وجبة الغداء فقد كادت الشمس أن تغيب، تناول طعامه وهو يستمتع بالغروب فتذكَّرها وهي تتمايل مختفيةً في قرص الشمس الراحل.
فقام متناسيًا كلَّ شيء حوله ومضي كالمنوَّم مغناطيسيًا إلى أن وصل لتلك المنطقة، تقوده قدماه وقلبه ولا يمكن لعقله إيقافهما، تذكَّرها وهي تحذِّره من القدوم مجددًا ولكنه قد وقع في غرامها وانتهي الأمر حتى وإن كانت (ندَّاهة) كما زعم (حسام)؛ فهو يريد أن يرحل معها أن يثملَ من سحر عينيها ما تبقى له حتى وإن كانت ستسلبه الحياة.
خطَّ بقدميه تلك المنطقة قاصدًا ذلك الكوخ فلاحظ لهيب نيران يظهر من مكانٍ ما بجوار الكوخ، اقترب قليلًا فوضحت الرؤية أكثر فأكثر، هناك من يجلس بالقرب من تلك النيران المشتعلة؛ اقترب بحذرٍ فقلبه أصبح يخفق بشدةٍ ولكنه قد اتخذ قرارًا لاعودة فيه، انساب إلى أذنيه صوت (جارة القمر) وهي تقول:
” لا تعتب عليَّ، أخّرني القمر
ضيعتنا هنيّة، وطالعا للسهر
يا خجلة عينيّ لو يعرفوا فيّ
لومك مش عليّ لومك على القمر
قلتلّك يا جاري احميني من الهوى
نحنا بالبراري، تربّينا سوا ما تاري سوا
إنت وها الهوى، اتّفقتوا عليّ وما عندي خبر
حلّفتني إمّي، ما حاكي حدا
قالتلي يا إمّي، إيّاك العِدا
إنتَ مش حدا، ولا أنت العدا
إنت الـلي بعينيّي رابي من الصغر”
شعر براحةٍ تسري في جسده نوعًا ما، فبالتأكيد لا أحد سيستمع لفيروز إن لم يكن بشريًا! فهدأ قليلًا واقترب ببطء وحذر متخذًا احتياطاته تجاه هذا القابع بجوار النار إذا انقضَّ عليه تحسبًّا لما قد يجري.
وضع مسدسه على رأس هذا الجالس وأمره بصوتٍ جَهْوري أن يقف بدون مقاومة، مرَّت بضع دقائق ولم يتحرك ذلك الجالس؛ فسرى الخوف في أوصال (زين) مجدَّدًا بمجرد أن تذكَّر ما رواه له حسام عن ذاك المكان، ولكنه كان يعلم أنه إن اهتزَّت ثقته بنفسه سيفقد حياته، فأعاد الأمر بصوتٍ أعلى فتحرك ذلك الجالس واقفًا أمامه متَّشحًا بالسواد، لم يتبين زين ملامح الشخص الذي أمامه بعد، فصوَّب مسدسه تجاهه مرة أخرى، وأمره بأن يزيح ذلك الشيء عن وجهه، وما إن أزاحه حتى تبين من ملامحه أنها فتاة! انصدم من الأمر ثم تدارك نفسه سريعًا، كانت ملامح الدهشة تكسو وجه تلك الفتاة فهي حتى لم تقم بردَّة فعل تجاهه، ظلت واقفة تراقبه بصمت، حاول الاقتراب منها ليتأكد من كونها بشرية، فابتعدت فأمرها بالثبات، فاقترب منها تلك المرة ونزع عنها ذلك الشيء الذي كانت ترتديه لإخفاء ملامحها لينساب شعرها على وجهها! فيفغر فاهُ ويسقط المسدَّس من يده على صوت ضحكاته:
إنها أنتِ، أنتِ بشرية، ولست النداهة كما يزعمون!.
ابتسمت وجلست حول تلك النيران مجددًا وأدارت الأغنية التالية، فنظر بزاوية عينه ليجد ذاك الصوت صادرًا عن (موبايل) فابتسم واطمأنَّ فالبشر وحدهم من بحاجة للهواتف!.
ظلَّا هكذا هي تنظر للبحر وأمواجه المتلاطمة وهو ينظر إليها، يجذبه شعرها المتطاير على وجهها يريد لو تسمح له بتهدئة اضطراب شعرها الهائج كي يتمكن من التدقيق والتعمُّق في ملامح وجهها الهادئ.
انتهت الأغنية ونهضت تنفض الرمال العالقةَ على ملابسها، فاستوقفها ممسكًا بيدها محذرًا إياها من الهروب هذه المرة دون الإجابة عن أسئلته، أبعدت يده عنها وتنهدت بعمقٍ وقالت:
ارحل واتركني، تخطَ أمري، لن أفيدك ولن أبيع تلك الأرض، حاربت كثيرًا كي أخلق حولها أسطورةً مخيفة كي لا يقترب منها أحد ولا يجرؤ أحد على شرائها، ولكنك تثير المشاكل، فقط ابتعد من هنا واترك الأمر كما هو.
تركته ورحلت، فلحق ركضًا بها وأوقفها وقال:
أنا لا أريد تلك الأرض فقط أريدكِ أنتِ.
ضحكت وتركته ورحلت، فلحق بها مجددًا:
انظري إليَّ، لديَّ كل ما احتاجه الأموال والقصور، وكل أوامري مجابة، يمكنني التنازل عن كل شيءٍ فقط لأبقى برفقتك، سأذهب معكِ إلي أي مكان حتي وإن كان تحت الأرض!.
تعالت ضحكاتها التي استكملت انهيار حصونه؛ فأمسك بكفِّ يدها مترجيًا إياها ألّا ترحل.
فأغمضت عينيها وطلبت منه أن يأتي ليلًا في نفس الموعد لهذا المكان ولكن لا يخبر أحدًا، اتفقا وتركته خلفها مبتسمًا كالأبله ورحلت.
عاد إلي الفندق فوجد صديقه في استقباله يستشيط غاضبًا منه، متسائلًا عن مكانه فقد كان قلقًا عليه بسبب اختفائه.
ولكنه فاجأه بدخوله مبتسمًا يدندن أغنية فيروز! فأوقفه متسائلًا:
-عساه خيرًا يا زين، أين كنت يا صديقي؟!
فابتسم زين واحتضن صديقه وقال:
لا تقلق، تجوَّلت قليلًا وقابلت بعض الرفاق القدامى لم يحدث شيءٌ آخر يذكر.
تركه وصعد إلى غرفته وحصل على حمامٍ دافئ، وألقى بجسده على السرير وسرعان ما غطَّ بنومٍ عميق.
رآها تجلس بالقرب منه حول تلك النيران وتبتسم، وهو يعدِّل من خصلات شعرها كي تسنح له الفرصة برؤية وجهها كاملًا، كذلك القمر الذي كان يراقب تلك الرومانسية في صمت!
أتى موعد اللقاء فانسلَّ في الخفاء وذهب إلى الشاطئ ولكنه وجد النيران مطفأة وكأن المكان مهجورٌ لم يمر به أحد، شعر أنها خدعته ليتركها تذهب؛ فجلس على الأرض وأمسك بحبات الرمال وأخذ يرفعها للأعلى ويتركها تنساب من بين يديه بنعومة، يعلم أنه قد فقدها للأبد، فضرب بيده الأرض لتشهق تلك الواقفة خلفه فتفزعه، فينظر إليها ويهدأ ويقوم مسرعًا إليها ويمسك بيدها:
ها قد أتيتِ، لقد ظننت أنك اختفيتِ!.
فابتسمت وأزاحت خصلاتِ شعرها المتمردة عن وجهها، واعتذرت منه على تأخُّرها.
جلسا سويًا يستمتعان بأغاني فيروز، وذلك النسيم الذي يطيب به العليل، إلى أن بزغت أشعة الشمس همَّت بالنهوض ولكنه أمسك بيدها ونظر بعينيها مترجيًا إياها ألّا ترحل مجددًا.
جلست بجواره مرة أخرى وتنهَّدت وقالت: انظر يا زين، أنت لا تعلم عنّي شيئًا لذا من الأفضل ألّا نلتقي مجددًا لن يطول هذا الأمر.
عبس وجهه وقاطعها قائلًا: لا أعلم لم أنتِ من يركض قلبي وراءها؟ ولكني على ثقةٍ تامة بأنه باستطاعتي تحمُّل الأمر الذي يدفعك للهروب من العالم والتخفِّي هكذا.
اغرورقت عيناها بالدموع وقالت: كان أبي أحد أهم رجال الأعمال، منذ خمسٍة وعشرين عامًا تعرَّض لضائقةٍ مالية بسبب تلك الأزمة العالمية، انتهت بإعلان إفلاسه، لم يتبقَ لنا سوى قطعة الأرض هذه، الذي كان أمله الوحيد أن يقيم قرية علاجية بها، ولكن لم يمهلوه فرصةً حتى يحقق ذاك الحلم، وقاموا بإحراق المشروع بأكمله وانتهت حياة والدي، وفقدت أسرتي تباعًا وتم الحكم لأحد شركاء أبي الذين انقلبوا عليه بأحقيته في تملُّك الأرض ظنًّا من الجميع أني تُوفِيت فلم يعد هناك ورثة، كنت أعلم أنه لو علم أنني على قيد الحياة سيتخلص مني كما تخلص من أفراد أسرتي؛ لذا اختفيت وبدأت أعبث ليلًا بأدوات المشروع وأشعل الحرائق هنا وهناك، وأبثّ الخوف في نفوس العمال إلى أن انتشرت الشائعات بأن ذلك المكان أصبح مسكونًا؛ فخفَّت الزيارات إليه رويدًا رويدًا إلى أن أصبح منطقة يتفاداها العابرون.
نظر زين إليها بدهشة ممزوجةٍ بالفخر، وسألها عن مالك الأرض فأخبرته بأنها لم تهتم بمعرفة تفاصيلٍ عنه، هي فقط حسمت أمرها بإخراجه من تلك الأرض مهما كلّفها الأمر، استأذنت منه لترحل ووعدته باللقاء في مساء الغد.
حلَّ المساء وهو لم يأتِ لقد اختفى! تفقَّدت أمره في الفندق فأخبروها أنَّه قد أنهى إقامته ورحل، لم تعلم عنه شيئًا سوى اسمه (زين) انقلب السحر على الساحر، الآن هو يعلم عنها كل شيءٍ واختفى!.
ظلت يومين مرابطة بالمكان على أمل أن يعود ولكنه لم يأتِ؛ فانهارت على الشاطئ تبكي حظها فلقد ظنت أنه مختلف -ولو قليلًا- عن قُساة القلب المنتشرين بذلك العالم.. انتشلها صوته من بكائها:هل تبكي لأنك افتقدتِني؟!.
جففت دموعها وتفادته واتخذّت طريقها؛ فلحق بها وحاول إيقافها، ابتسم ورفع أنامله ليجفف تلك الدموع التي خانتها فأشاحت وجهها وأزاحت يده فقال لها:
اهدئي، لقد تمكّنت من تسوية الأمر برمَّته، وتلك الأرض ستصبح ملكًا لكِ ما إن ترافقيني لنسجّلها باسمك لدى المحامي!.
فغرت فمها فهي لم تستوعب كلمة واحدة مما قال، بدا جليًّا على ملامحها أنها لم تفهمه، فأمسك بيدها وقام باقتيادها خلفه، وصل إلى السيارة ففتح بابها وأجلسها ثم التفَّ هو الآخر وانطلق للفندق الذي كان المحامي و(حسام) بانتظاره فيه.
وصلا الفندق سويًا، اصطحبها للداخل وقام بتقديمها لحسام والمحامي:
آنسة (شدوان) شريكتي التي سيتم تسجيل ملكية الأرض باسمها، نظر إلي المحامي وقال: لنُنهِ الأمر بسرعةٍ.
نظرت إليه حينما أمرها أن تقوم بالتوقيع، فأومأ برأسه لها كي توقّع بلا تردد، وما إن انتهت حتى أمسك بيدها وطلب منها أن ترافقه للغداء، حاولت أن تستفهم منه عمَّا حدث للتوِّ، ولمَ زعم أنها شريكته، ولكنه قطع الأمر عليها، وأخبرها بأنهم سيتحدثون في الأمر أثناء تناولِ الطَّعام.. لم تجد سبيلًا للاعتراض فوافقت.
دلف إلى المطعم برفقتها وقام باختيار الطعام، وتنحنح ليخبرها بأنه قد قام بشراء الأرض لأجلها، وما حدث منذ قليلٍ كان تسجيلها لها، زعم أنها شريكته كي لا يتساءل أحدٌ حول أمرها.
استنكرت ما فعله، فالأرض كانت لها ولم يجرؤ أحدٌ علي دخولها، فأخبرها بأنَّ الأرض بيعت له بمبلغٍ زهيد فصاحبها يظنها شؤمًا ويريد التخلص منها، وهو أراد أن يُهديها إياها وتتخلص من تخفِّيها واختبائها.
ابتسمت له وشكرته ووعدته بردِّ المبلغ ما إن تنجح في إيجاد مستثمرٍ لمشروعها، فتعجب من حديثها قائلًا: ألم أقل منذ قليلٍ أنك شريكتي؟ سنقيم ذلك المشروع الذي تمنَّاه والدك، أنتِ بملكية الأرض وأنا بالاستثمار لن أترككِ تتعاملين مع شخصٍ غريبٍ يتحكم بكِ بعد الآن.. ابتسمت وأكملت طعامها ثم انطلقت في طريق العودة لمنزل صديقتها.
تم البدء في مشروع القرية العلاجية منذ ما يقرب من سبعة أشهرٍ، واليوم هو يوم افتتاحها، تم تجهيزها على أعلى مستوىً، عانوا كثيرًا في إيجاد عمالٍ لا يخشون ما يشاع عن الأرض، وبالنهاية كان التوفيق حليفهم وتمكَّنوا من إنهاء مشروعهم.
كانت تراقبُ نجاحه في صمتٍ وتزداد شغفًا وولعًا به يومًا عن يوم، طلب يدها للزواج في وقتٍ سابقٍ ولكنها تنصَّلت منه بأسلوبٍ لبقٍ واليوم ترى تلك الموظفة تحاول أن تستميله إليها ولكنه يرفض بشدة ويطردها خارج مكتبه!
فتدخل عليه (شدوان) بغيظٍ تحاول كتمه كي لا يفضح أمرها:اهدأ يا زين، لا داعي للعصبية من تلك الموظفة، سأتكفل بالتعامل معها!.
لينفجر زين ضاحكًا قائلًا:
– لا، لا أريد أي أفكارٍ مجنونة، سأكتفي بنقلها لشركة أخرى يقوم صديق لي بإدارتها.
– أنت نبيلٌ جدًا، لم يعد متسعٌ لأحدٍ مثلك بهذا الكون!.
فغمز زين لها قائلًا: أعلم أعلم، هناك متسعٌ فقط للأشباح والعفاريت!.
ضحكت شدوان، وكاد زين يخرج من المكتب ولكنها استوقفته لتعدّل له تلك (الكرافات) فسرح في وجهها، لقد انشغل عنها كثيرًا في الآونة الأخيرة ولم يلحظ أنها تزداد إشراقًا وجمالًا هكذا؛ فعقد ما بين حاجبيه قائلًا: أرى أنه ازداد إشراقكِ، عساه خيرًا، أهذا بسبب انتهاء المشروع؟
تلعثمت وأخذت تفرك يدها وأخفضت رأسها أرضًا، فقام برفع وجهها:
لا تخبريني أنكِ وقعتِ في حبِّ أحدهم، فأنا أعلم بشدة تلك النظرات البلهاء!.
انفعلت عليه على إثر حديثه وقالت: وقعت في حب أحدهم؟! لا، وقعت في حبك أنت!.
حاول زين تدارك ما تقوله ولكن فوجئا بتلك الموظفة تقتحم المكتب لتخبره بأنَّ حفل الافتتاح قد أوشك على البدء، فتعمدت شدوان أن تضع يدها في يد زين وينطلقا لقصِّ شريط الافتتاح سويًا.
بعد مرور شهرين كانت شدوان تعدُّ طعام العشاء وما إن دلف زين للمنزل حتي تبدّلت ملامح سعادته لحزنٍ فتوجه للمطبخ ليجدها تعدّ الطعام، فمازحها قائلًا:
يا حياتي، ألم تتعلمي طيلة حياتكِ شيئًا عن الطعام سوي المكرونة والبانيه؟! لتقهقه شدوان بشدة.