اللوحة: الفنان الإسباني سلفادور دالي
يستذكر الدكتور سعيد شوارب في سلسلة من المقالات بعنوان «من حقيبة الذكريات» أيام الغزو العراقي للكويت، وكيف اضطر لمغادرة الأخيرة مع أفراد أسرته ككثير من المقيمين العرب الذين اضطروا لمغادرة الكويت إلى بلدانهم في ظروف صعبة.
الأفق أرْجوانىّ ضارب إلى العتمة.. مسافرٌ بلا نهاية فوق أرض السواد العراقى.. لا نرى من هنا مدينة “البصرة”.. المحيط حولنا يغرق فى أجواء الغروب.. ألوان تلفُّنا بالحذر والقلق من جميع أقطارنا.. اتفقنا ألا نسرع كثيرا فى هذا الطريق المعد للسفر الدولى.. أرهقته جنازيرُ القوات الضخمة بلا شفقة منذ الثانى من أغسطس..1990 يوم الغزو العراقى للكويت.. بدا طريق السفر الرئيسى مرصوفًا غير مرصوف.. نظام الرصف واللوحات الإرشادية للمرور، تحمل ملامح عزيز ذل..اختلط النور الخلفى لسيارة يوسف نوفل بأنوار سيارات أخرى كثيرة.لم أعد قادرا على متابعة سيارة صاحبى.. امتد بنا الصمت المشحون بالترقب.. بَابَا : أحمد حرارته عالية.. الجرح الكبير فى راس أحمد يتزند منذ الصباح، لازم نغير عليه.. أنت عارف تراب الطريق والظروف الصعبة.. قالت هند برقتها المعروفة تخفف عنى.. إلحاحُ الأم ولهفتها اضطرنى إلى الوقوف مجبرًا.. أحمد الصغير، عند الأسرة كلها، يعنى الكثير جدا.. لم نكن قد دخلنا عصر “الموبايل” بعد.. فقدنا رفيق السفر، يوسف نوفل.. لم نكد نبدأ فى مساعدة أحمد فى الكف عن البكاء ونحن وقوف، حتى داهمنا نفير سيارة ضخمة عسكرية تصرخ فينا “حَرِّكْ..حَرِّكْ”.. ممنوع الوقوف.. وقفتِ السيارة العسكرية المدججة خلف سيارتى فى وضع مَن سيدفعها بالقوة إلى حيث لا يهم..عرفنا أنهم من المخابرات العسكرية وأن الوقوف لأى سبب مستحيل..لا شىء يشفع عندهم حتى دموع الأم تسترحم لصغير مجروح يبكى..أصبح اللحاق بيوسف نوفل، غير قابل للشفاعة أيضًا.. غاب عن عينىَّ فى الظلام الثقيل الذى لا يكسره إلا الخلفيات الضوئية الحمراء للسيارات المنطلقة.. حرَّكْنَا مكرَهِين وانطلقنا.. تضغطنى وحشة الطريق، ودموع أحمد، وجهل المسافة بينى وبين صاحبى.. هل ينتبه يوسف أننى لم أعدْ وراءهم؟ بالليل، لا تجدى نفعًا ألوان السيارات ولا ” مارْكاتها” فى التمييز.. لو حصلت حاجة ماذا نعمل؟.. لست قادرا أن أجيب سؤال زوجتى المختنق مثلى بهواجس كأنها قطع من الليل المظلم.. حثثنا السير لعلنا ندرك مَنْ غيَّبهم الطريق والظلمة.. ليتنا انتبهنا قبل الخروج من الكويت،أن نحصل على خريطة للطريق عبر العراق والأردنّ إلى وطننا.. أكملتُ وحدى أكثر من 150 كيلومترًاعلى عداد المرسيدس..لا بد أن يوسف قد تنبَّه فوقف ينتظر الغائب.. هل يسمح له أحد بالانتظار؟ اشتد بى القلق فاشتد ضغطى على البنزين طلبا لأقصى سرعة ممكنة.. ربما.. ليس بعيدا على الله.. فوق السيارة أمتعة كثيرة ومرتفعة تهددها السرعة العالية.. لو انقطع حبل الرباط على سطح السيارة لصرنا مهددين كلنا..لا تقبل سيارة أىُّ سيارة فى الاتجاه المعاكس أن تقف لنٍسألها عن أقرب استراحة أو أقرب مدينة.. دخان له صوت كالفحيح يخرج من السيارة بعد الزجاج الأمامى بقليل.. أسمعه ويخنقه الليل العصبىّ.. لا أفهم فى المرسيدس إلا كما يفهم ” محمد “، البواب المصرى الذى كان ينظفها أمام العمارة فى الكويت ” عندى خبرة جيدة فى سيارتى ” الفيَّات 128″ذات الثلاثين ربيعًا فى القاهرة.. نزل بى من الهمِّ كل ما تقافز فى وجوه أولادى وأمهم من قلق المجهول، الله بنا عليم.. فتحتُ فى الظلام غطاء السيارة دقائق معدودات ليفهم عفاريت المخابرات أن بها مشكلة فنية.. لم تمر غير دقائق حتى كانوا يركبون أكتافى عند الماكينة أستطلع من أمرها مالا أعرفه.. ما أجملك ” بدر عطا الله”.. زوَّدتنا أيضا بوسيلة إضافية للإضاءة فى الطوارئ قبل أن تودعنا.. توقف الصوت والدخان بعد توقف الماكينة.. ” حرِّكْ حرِّكْ..” أخبرْتُهمْ أن بالسيارة عطلا ولا نستطيع الحركة.. هييييه؟؟.. معك زيت موتور؟ نعم معى، ولكن الزيت جديد بدلناه قبل السفر مباشرة..تِفْتِهِم فى الميكانيكا؟.. لا.. إذن فلا تتكلم.. صبَّ فى فتحة زيت الموتور لترًا كاملا..وأغلق الغطاء وصرخ فى وجهى.. رُوحْ.. لن نسمح لك بالوقوف.. انطلقَ الصوت والدخان من سيارتى قبل أن أنطلق بعيدا..ليست السيارة رفاهية فى هذا الظرف المرعب.. لو احترقت لا قدر الله،لاحترق كل شىء.. صِحْتُ فى أسماء حين ارتفع نشيجها المكتم خلال دعائها المعلَـن.. وضع الأولاد أيديهم فى أفواههم وانهدل الصمت.. ليس إلا صوت الدخان والهديرغير المعتاد للسيارة.. وقفت أتعرض للسيارات التى تمر بى ملتحفا بالظلام، شبحى مثير للخوف الحقيقى عند كل من يفكر فى الوقوف ولو للحظات.. لو كنت مكانهم لفكرت ألف مرةٍ قبل أن أقف لمن قد يكون قاطع طريق فى ظروف حرب.. رجل شهمٌ وقف يسألنى ما ذا أستطيع أن أقدم لكم؟.. قلت له : شيئ بسيط.. وأنت تأخذ طريقك، كلما وجدت سيارة متوقفة على اليمين، أو فى مكان مخصص للاستراحة مثلا، فإن كانوا يعرفون سعيد شوارب،فقل لهم إن سيارته تعطلت، واذكر لهم المسافة التى قطعتها أنت بعد أن رأيتنى هنا.. لا بد أن يوسف اكتشف اختفاء سيارتى وانتظر فى نقطة مناسبة.. ذهب الرجل الشهم بعيدا فى طريقه، وذهبت بعيدا فى دموع صامتة وحزن غير صامت..أفقت على الصوت المرعب من سيارة تشقُّ الليل “حرِّكْ حرِّكْ.. ممنوع الوقوف هنا.. سنحمل سيارتكم ونسلمكم لأقرب مركز سيطرة”.. سمع العسكريان هلع زوجتى وصراخ العيال واستحالة انطلاق السيارة.. سألا: ماذا تنتظر؟ قلت أنتظر إخوتى عما قليل هم إلينا راجعون إن شاء الله.. سنعود إليك بعد قليل، فإما ذهبتَ فى طريقك وإما ذهبت فى طريقنا نحن إلى أقرب نقطة سيطرة عسكرية.. تجاوز الليل نصفَهُ، وتجاوزتِ الهواجسُ غايتَها، وتجاوزصمتُ أحمد المغردُ دائما، وحرارتُه – قدرتَنا على الاحتمال.. الدقائق أبهظ ثقلا على أنفاسى من رباط مشدود على أنفى..
حاصرَتْنِى مقاطع من قصيدتى “حين تغيبين”… فى عام 1985.. يوم كتبتها، كانت غزَلا مُورِقًا لشخص واحد هو أنا، فى شخص واحدٍ هوَ هىَ.. ثم هى الآن تستحيلُ رثاءً مُحرِقًا
لأسرة بأكملها، فى ظرف محرقٍ بأكمله :
حين تغيبين..
أرأيتِ سفينًا نامتْ عنهنَّ الريحْ
فظللنَ رواكدَ كالأعْلامِ على ظهْرِ البحرْ
والريحُ أمانىٌّ ضاعتْ، وتسجَّى الماءُ وغابتْ كلُّ الأنواءْ
يتحرَّى الأفْق بجفنيْنِ احترقا
ذابا أملًا.. مللًا.. قلقَا
قلق المصلوبِ على ظهر الثلجْ
وتحرَّق فى عينيه الدمعُ، فغنَّى للموجْ :
أيها الملاحُ فى بحر الهوَى نامت الريحُ، وجافَـاكَ القمرْ
أنتَ فى الغُرْبةِ مهدودُ القوى لا المنى جاءتْ ولا الريح عبرْ
وتكوَّمَ مثل شراعٍ نامتْ عنه الريحْ
فدنا فتدلَّى مهزومًا، كسُقوطِ كَسِيحْ
إيهٍ يا نوحْ
لا نوحُ هناكَ ولا الجُودِىّْ
حين تغيبينْ
أرأيتِ إلى هذا النوتِىّْ؟
ليس من الغرْبةِ والأشجانِ كما قد كنتُ أظنّْ.
انخرطتُ أنا وأسماء فى دعاء صامتٍ.. ياربَّ.. يامغيث كل مكروب.. اكتب لهذه الأسرة مخرجًا من وحشة الغربة، وذل الحاجة إلى غير بابك..
وللحديث بقية إن شاء الله