اللوحة: الفنان االأميركي إدوارد هوبر
يستذكر الدكتور سعيد شوارب في سلسلة من المقالات بعنوان «من حقيبة الذكريات» أيام الغزو العراقي للكويت، وكيف اضطر لمغادرة الأخيرة مع أفراد أسرته ككثير من المقيمين العرب الذين اضطروا لمغادرة الكويت إلى بلدانهم في ظروف صعبة.
فعلا.. ليست مأساة هذا الربان الذي صورته وأنا أحتسي الشاي على مكتبي وفي بيتي بالقاهرة عام 1985، وهو يتكوم مثل شراع نامت عنه الريح، ثم وهو يدنو ويتدلي مهزوما كسقوط كسيح.. – هذه المأساة لا تشبه مأساتي على طريق السفر.. بين التجربتين من شاسع الفروق، ما هو بين توهُّم الخيال الفني المجنح، وتجرُّع الواقع المأساوي المدمر.. سيارتي هنا معطلة معلقة بأسرتي في الأفق المجهول، وحبيبي أحمد الصغير المجروح الذي يغلي حرارةً، وأسرتي التي تغلي خوفًا، وزوجتي التي تتقلقل رعبًا من فقد السيارة أو مما يجري لأحمد أو من القبض على سعيد لحظة تكتشف قصائده ضد صدام حسين، ولا سيما ونحن في بلاد صدام، وفي قبضة المخابرات الصدامية.. لا شيء مأمون هنا مهما بدت دقة إخفاء هذه النصوص في ثغرة مختفية من نظام التكييف بالسيارة وتحت غطاء الماكينة..
ننتظر عودة المخابرات العراقية تحت الظلام لسحْبنا إلى أقرب مركز سيطرة كما هددونا.. لم يمر في حياتي أفظع من هذا الوقت المتفجر بالخطر.. شاركتُ في حرب العاشر من رمضان1973 وعشت الحصار في سيناء ممتدًّا، ورأيت الموت الأحمر قتلا أو جوعًا، غير أني كنت آمنا على أولادي.. فخورا بموتي، مقاتلا على أرضي، وبين زملاء من شبابِ وطني هم بالفعل، مفخرة لكل وطن محترم، حتى وإن لم يعوضهم بشيء أي شيء كما حدث معنا..!
عمُّو سعيييييد.. عمو سعيييد… صوت حسن ابن الدكتور يوسف نوفل يصل إلينا من الجانب المقابل للطريق في الاتجاه المعاكس.. توقفت السيارة ونزل يوسف نوفل وأولاده
يقطعون إلينا عرض الطريق في الليل.. لحظة من أنبل ما عرفت الأرض من هدايا السماء.. ركب يوسف ومضى يبحث عن فتحة في الطريق ليستدير إلى حيث نحن.. اندمجت بناتي وبنات يوسف ليقص كل منهم ما عصف به من خواطر أومخاطر.. الرجل الذي أوصيته أن يجتهد في إبلاغ يوسف عن تعطل سيارتي كان عظيما ففعل.. نفير أجش من سيارة تقترب.. وقفت على رأسنا المصفحة العسكرية لرجال المخابرات كما حذرونا قبل ساعة.. في لهجة بطعم التحقيق المرعب، سألوني عن عمن معي من أشخاص لم يروهم من قبل.. هم أبناء الدكتور يوسف الذي انطلق ليدور إلى اتجاهنا ويصل هنا بعد قليل إن شاء الله.. غمغم الرجلان بكلام لم نفهمه.. عرفت من امتداد ذراع الرجل بعيدا في حركة دائرية أن فتحة الاستدارة بعيدة جدا..لا بأس.. “معاكو زجاير”؟.. للأسف ليس فينا من يدخن.. رحبوا بالبرتقال وبعض الطعام وهم يسألونني عن بلدي وعملي في مصر، ثم عن عملي في الكويت.. لم يعد مهما أن يعرفوا حقيقة عملنا وقد صارت الكويت من ورائنا.. أبرزنا لهم جوازات السفر هذه المرة.. يعجب يوسف نوفل وهو يقلب كفيه مندهشا من بُعد فتحة الدوران للخلف.. كأن شيطانا صمم لهم هذا الطريق.. اكتشف الرجلان استحالة أن تجر سيارة يوسف سيارتي.. كلتاهما كالفلك المشحون من فوقها ومن تحتها.. تعجبا من مغامرتنا بالسفر المسرف تحت تلك الأحمال المسرفة.. ليس إلا أن يسحبوني بسيارة الشرطة نفسها، لكن، إلى أين؟ وإلى متى؟…. لم يجيبا.. تهامسا قليلا وأشارا: اركبوا.. انتظمنا.. يوسف بسيارته من خلفي، وأنا مجرور من سيارتي.. عندهم أدوات جيدة للسحب.. مالا بنا عن طريق السفر السريع إلى طريق ذاهبة في البطء والمطبات.. تمتد وسط غابات يلفها الظلام الملبد.. لا تسمع الا هدير السيارات وخشخشة الغاب الكثيف يحك أجسام السيارت .. طال المضي على المدقِّ المتلوي الضاغط على أنفاسنا كحية تسعي.. مكان مظلم إلا من ضوْءٍ خافتٍ كالَّلاضوْء.. انزلوا.. كم بيننا وبين طريق السفر الذي غادرناه؟.. نحو خمسين كيلو مترًا.. بكرة دبِّروا راسكم.. هل هنا من يصلح السيارة؟.. لا.. علقا بضحكة مندهشة من سذاجة السؤال في هذه الخرابة.. ليس في المكان إلا شحيح ضوء وكثير من المازوت والسولار تشبع بها التراب حتى عاد طينا يشبه الحمأ المسنون.. ثلاث مضخات قذرة لتزويد الشاحنات بالسولار.. عاملان لخدمة التزويد.. ليس في المكان مصلى، ولا مياه، ولا دورات مياه.. والحريم؟؟.. أشار أحد العمال: تصرفوا.. ليس في الغابة ما يخيف.. بعض عيالنا يخاف من خياله.. تصرفنا وتيممنا.. لابد للنساء والأولاد من مكان يلقون فيه أجسادهم ساعة بعد هلاك يومين.. ليس موضعٌ قليل السولار إلا مساحة مدد السواق شاحنته فوقها، ونام عند عمال الخدمة.. في الوحل نامت شاحنتان أخريان على مقربة من أختهما.. متى ترحل هذه الشاحنات؟.. ليس قبل الثالثة فجرًا أو الرابعة.. أجاب عامل الخدمة.. نصبنا بطاطين على جانبي الشاحنة وجعلنا من أسفلها دارًا لثلاث أسر هدها الرهق وخلخلتها الأحداث.. نام الذكور مستندين إلى ما اتفق، متخذين وضع الحراسة.. جلستُ جوار سائق الشاحنة البيت.. غطيطه يوقظ نوم الحجارة وفي جيبه مفتاح الشاحنة.. لو قام فجأة فتحرك بالشاحنة لكان من أمرنا مايكون.. غط غطة طويلة أيقظته من بئر النوم.. ارتجَّ إذ وجدني أقرب مما توقع.. لا بأس عليك، لا تقلق.. أنا الدكتور سعيد شوارب من مصر.. قادمون من الكويت فيما تعلم من أحداث.. وأنت ما اسم حضرتك؟.. حيدر.. عرف قصة سيارتي المعطلة وفكر معي في حل.. ليس إلا أن تذهبوا إلى مدينة “الناصرية” على نحو مائة وخمسين كيلو مترًا من هنا.. سألني عن اسم ابني الكبير.. بو وائل: صار لي مدة وعندي حرقان في البول.. لللأسف فإني لست طبيبًا.. تمنيت لو كنت طبيبا للسيارات.. هل يمكن أن تجرني إلي الناصرية لو سمحت؟ لست ذاهبا إلي الناصرية، فإن شئت فأعطني خمسمائة دينار كويتية.. أليس القانون الجديد قد سوَّي بين العراقي والكويتي؟..إذا خرج صدام غدا من الكويت فستصبح معي قيمة كبيرة.. تداولنا الظروف الصعبة التي خرجنا فيها وإغلاق البنوك على ما ادخرنا.. قبل حيدر بنصف ما فرض.. ضحك متعاطفا ونحن نخرج أهلنا من تحت شاحنته.. شكرًا بدر عطا الله.. لولاك لضعنا.. ليس مع حيدر وسيلة لجر السيارة.. مدَّ حبل الجر الفولاذي بين سيارتي والشاحنة التي تسد على أفق الرؤية بضخامتها.. المرسيدس هنا تشبه أحد الصيصان يختبئ في أمه الدجاجة الضخمة.. الساعة تجاوز الثالثة ليلًا..أخذنا حيدرُ الطيب إلى حيث لا ندري من المسالك.. داس حيدر على كوابح الشاحنة فجأة فكدنا نرتطم بعنف في جسمها الحديدي المرعب.. ليس في شاحنته المتهالكة أنوار خلفية للتحذير.. صرخة أسماء كانت فاجعة بلا حدود.. تعودت أن تحذرني من سرعة المرسيدس على شارع البلاجات بالكويت.. حيدر لا يحس بحجم مأساتنا إلا كما يحس الفيل بحركة نملة تتأوه على جسده.. لم نكد نبلغ نصف المسافة التي ذكرها حيدر إلى مدينة الناصرية.. داس البنزين لينطلق.. نسي الجارَّ والمجرور.. لم أسمع إلا الفرقعة المفاجئة لانقطاع الحبل الفولاذي وذهاب الشاحنة عني.. زمارة يوسف نوفل تتلاحق من خلفي.. ذعرُ الاصطدام المفاجئ .. انتبه حيدر.. رجع مسافة معتبرة.. أعاد ربط الحبل المقطوع من وسطه على هيئة عقدة كبيرة ابتلعت طوله حتي لم يبق إلا أقل من مترين.. لو وقف فجأة جديدة لابتلعَـنا أسفلُ الشاحنة..!
انحدر بنا طريقٌ فرْعي إلي مدينة “الناصرية “…
وللحديث بقية إن شاء الله
من حقيبة الذكريات – عشر دقائق ولكن!