رسالة جافة

رسالة جافة

محمود حمدون

اللوحة: الفنان الروسي إيفان جوروخوف

كنت أهوى القفز بين حقول الألغام، أعدّها هواية لشغل وقت الفراغ على قِلّته لديّ، حتى أنني كنت أقفز كجرادة برشاقة بينها، أكاد ألمسها بأنامل قدميّ، لكنّي لم أقع أبدًا في محظور أن أطأها حتى تفيق واحدة من سُباتها، فتنفجر غيظًا بوجهي.

فلطالما رأيت أشلاءً لأصدقاء وأعزّاء تتطاير في الهواء، بعضهم لم يبق منهم أثر. لذا أخذت من هؤلاء وأولئك درسًا و عِبْرَة، احتميت بعقلي فقط، وضعت جداولًا صارمة من احتمالات الفشل الكثيرة، الفوز المرتقبة، بعدها لم أخطئ، كما لم تزلّ قدمي.

أزعم أنني وقفت بالميدان وحدي، كنت أنافس نفسي في الرهان، أفوز بكل مسابقة، غير مرة كنت أقفز مغمض العينين. اندفاع وتحدّي حذّرني منهما الشيوخ، كما تهكمت من نزقي نسوة عجائز، ووصمني كثير من أصدقاء بأنني متهور، أهوى مضاجعة الأحلام، لفت الأنظار. اتهامات وسخرية سمعتها كثيرًا، ضايقتني في البداية، سرعان ما ألقيتها خلف ظهري ومضيت في طريقي، أتلاعب بالألغام، أعيد ترتيبها كل يوم، أشيّد حقولًا جديدة منها صبيحة كل يوم، ثم أنقضها كلما أقبل الليل.

ولأن لكل جواد كبوة، قبيل مغرب يوم الثلاثاء الماضي غفا قلبي هنيهة وأنا أنتقل بخفّة  بين حجرين تحتهما قنبلتين كامنتين، تنتظران على أحر من جمر، شردتُ لثانية أو أقل، بحسب زعمي هو وقت يسير لكنها الهفوة التي لا يقوم للمرء بعدها قومة.

وقد أخطأت وأعترف بهذا، لكن ماذا بعد الاعتراف؟ لن تعود الحياة سيرتها الأولى أبدًا.لقد انفجر “لغم” لا يكاد يُرى من فرط رقّته، لم أحسب أنه بهذه القوة والعنفوان! 

حين تطايرت شظاياه أصابت واحدة منها قلبي بمقتل، أقسم أنني انشطرت إلى نصفين، بعضي ظل هنا وكلّي أصبح هناك، بين القسمين اتسعت مسافة كما بين السماء والأرض، حلّ فراغ رهيب ليس به إلاّ بقايا من رسالات جافة كانت تذروها الرياح.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s