محمد نديم علي
اللوحة: الفنان الأميركي ديفيد توتويلر
(١)
يرن جرس المحطة في الصباح الباكر.. يهرع المسافرون.. والأمتعة والحمالون.. تهدر الآلات والمشاعر في الصدور، بين أحلام الوصول المنتظر وقلق الرحلة التي قد تطول.
(٢)
تعم رائحة الدخان الأمكنة، باعة كل شيء يلحون عليك أن تأخذ وتدفع الثمن.. لا أدري.. لم هي البضائع غالية هنا عن مثيلاتها في شوارع المدينة؟!
لماذا يجب على المسافر وهو في عجلته وتخبط حقائبه، وارتباك خطاه، لماذا يجب عليه أن يبتاع حاجته في هذا الوقت بالذات، وبثمن ليس ببخس؟
(٣)
تحسست حافظة أوراقي في جيب سترتي الداخلي.. لا شيء مضمون هنا في هذا الزحام العشوائي المقصود.
(٤)
يدرك الباعة الخبثاء في قيظ الصيف، كيف يمدون إلى بؤرة عينيك بأياد ذات زجاجات ماء مثلج، ويدركون كم هي مؤثرة بضاعتهم الملونة ذات السكر الكثير، وهم يلوحون بها قدام أنوف العيال الصغار مما قد يسبب حرجا للآباء والأمهات.
الصبر الصبر، سنصل محطتنا، وهناك اهل محبون وبيوت عامرة وماء بارد وطعام كثير.
(٥)
سفر.. سفر.. وبضائع وأمتعة.
وجوه كثيرة تنبئ عن خرائط وادينا منذ عهد مينا وعمرو، حتى زمن الثورات الفاشلة والأحلام الموءودة، لكنها وجوه ذات عيون سمراء موغلة في أزمنة النماء والاخضرار، تتجلى بنور خفي يشع بمواويل بالصبر والاحتساب.
(٦)
الوجوه تتابع.. صفحات تنبئ عن مكنون قلوب أصحابها؛ فرحا وترقبا وقلقا.
تحسست مرة اخرى حافظة أوراقي الثبوتية والمالية، وتذكرة المسافر، تأكدت من وجودها.
أكان علي أن أخبرهم بموعد القدوم، أم أن صعوبة حجز التذاكر أوحت لك بتطبيق فلسفة مفاجأة الوصول السعيدة؟؟ ربما.
(٧)
وجوه كثيرة. وأزياء شتى، وروائح تزكم الأنوف.. كل ذلك وفق القدرة الشرائية للعابرين أمامك ومن بين يديك أو خلفك. يشدني ثقل حقائبي إلى الأرض. أقاوم، وانا اركض كبطة عرجاء من رصيف إلى آخر. أين اختفى الحمالون عني؟
(عليك أن تحمل أثقالك وحدك).
ذلك الآخر القابع في عمق ضلوعي يلقي إلي بنصائحه وحكمه التي لا تنتهي!
(٨)
يصفر القطار آذنا ببدء الرحلة.. يتراكض المسافرون والحمالون والأمتعة.. يستقر كل في مقعده، او فوق رفه العلوي كل ذلك في انتظام رياضي حسابي دقيق.. ووفق رقمك الرسمي على وجه التذكرة انتظارا للمفتش، ينظر إليك ثم الى التذكرة ثم يشفع ذلك بكلمة طيبة. توصل بالسلامة.
(قليلون هم من يفعلون ذلك.)
مرة اخرى، ذلك الآخر القابع في عمق ضلوعي يلقي إلي بانتقاداته اللاذعة التي لا تنتهي لواقعنا الجميل!
(٩)
اركض مع الراكضين..
“تعلن إدارة المحطة عن قيام قطار الصعيد الفخم من فوق رصيف نمرة 5”
يشدني ثقل أمتعتي إلى الأرض.. أحاول الركض كبطة عرجاء.
الكبرى لهدايا الأسرة والعائلة، والوسطى لملابسي وأدوات زينتي، أحذيتي ونعلي، والصغرى على كتفي النحيل؛ لطعام رحلتي وكتاب للتصفح وزجاجة ماء أظن انها مثلجة وأتمنى ان تظل كذلك ولو لنصف مسافة الرحلة!
(١٠)
القطارات تقبع فوق الأرصفة.. كل إلى اتجاه، والصخب سيد المكان.. والوجوه تركض والحمالون والأمتعة.
شدني شباك قطار شعبي مررت به، عليه وجه طفلة تبدو في غاية السعادة أن جلست إلى حافة الشباك، مادة كفها الصغيرة تلقي إلى بالسلام!!
تلعثمت خطاي في حقائبي، ولكنني تمكنت من لمس أطراف أصابعها الغضة الصغيرة، وقطارها الشعبي يحرك عجلاته ببطء آذنا بالرحيل.