رمضان في بني مجد (5)

رمضان في بني مجد (5)

د. جمال عبد الرحمن

اللوحة: الفنان الفلسطيني أحمد الدنان

تجربة اليوم الأول

كان الطفل الصائم يعامل غيره من الأطفال باستعلاء. إنه يصوم مثل الكبار تماما، ويتعين علينا أن نتعامل معه على هذا الأساس. لذلك كان كل منا يحلم بأن يسمح له والداه بأن يصوم. كان الوالدان يشفقان على الأطفال، ولذلك صدرت فتوى تريح الجميع: صيام الأطفال ينتهي عند أذان الظهر، وهكذا استراح الآباء من مطالبنا، واسترحنا لهذه الفتوى الميسرة. لكن حلم “إكمال اليوم” كان يراودنا جميعا، ولا ينسى الطفل ذلك اليوم المشهود الذي وافق البيت فيه -بعد مداولات- على أن يصوم يوما كاملا. في ذلك اليوم التاريخي طرح على عمته عشرين سؤالا فقهيا: هل أكل الجزر يفطر؟ ما حكم أكل قطعة لحم صغيرة لمعرفة إن كان الأكل قد طاب؟. بدأ الطفل يسأل عن الوقت المتبقي من اليوم اعتبارا من منتصف النهار، وكانت دقائق قليلة تفصل بين السؤال والسؤال الذى يليه. انتهى اليوم على خير، وقررت الأسرة بالإجماع عدم السماح للطفل بأن يصوم يوما ثانيا: إذا أراد أن يصوم فأمامه صيام الأطفال الذي ينتهى مع أذان الظهر. المهم أن الطفل صام يوما كاملا، ولم يعد باستطاعة طفل آخر أن يتفاخر عليه.

الطفل الصائم والطفل “الفاطر”

لم يكن الأطفال في بنى مجد يصومون ابتغاء المثوبة من الله، بل لإظهار التفوق على أقرانهم. عندما يلتقي طفلان كان أحدهما يبادر إلى سؤال الآخر “إنت صايم ولا فاطر؟”. كان الطفل الأول يعلن أنه صام أربعة أيام وأنه صائم في هذا اليوم أيضا، فكان الطفل الثاني -حتى لا يبدو في وضع أقل- يعلن هو الآخر أنه صائم. كان لابد من التثبت حتى يعترف بقية الأطفال. كانوا يطلبون من الطفل أن يخرج لسانه، فإذا وجدوه جافا فهذا دليل أكيد على صدقه. كان الطفل الصائم يخرج لسانه، وهنا يجتمع بقية الأطفال للنظر وإعلان النتيجة. أحيانا كان الأطفال يرون أن لسان زميلهم رطب، وهنا كانوا يعلنون أنه فاطر. هنا تبدأ الأغنيات الكيدية “يا فاطر رمضان، يا خاسر دينك. كلبتنا السودا تقطّع مصارينك”، أما زميلهم الصائم فكان يستحق قبلة من الكلبة البيضاء (لاحظ اختلاف لون الكلاب عند الفريقين). لم تكن المساجلات تنتهي إلا بوصول طفل آخر معه كرة. هنا تبدأ مفاوضات لتشكيل فريقين يتباريان حتى قبيل المغرب. ينهون المباراة ليذهب كل منهم إلى بيته ويحضر مدفعه.

المدفع

نعم يا سيدي، كما قرأت. كان لكل طفل في قريتنا مدفع. وكنا نصنع سلاحنا بأنفسنا، لا نشتريه، لأن ميزانية الأسرة لم تكن تسمح بهذا الترف. كان المدفع يتكون من قطعتين من الحديد، إحداهما مجوفة، والأخرى تدخل في التجويف، ويربط القطعتين حبل له طرفان ينتهيان في يد الطفل صاحب المدفع. كنا نزيل الكبريت من أعواد الثقاب (هذا معناه سرقة أعواد الثقاب أو علبة الكبريت كاملة، في حالة وجود ثلاثة أطفال في البيت) ثم وضع الكبريت بين قطعتي الحديد. كنا ننتظر لحظة الأذان بفارغ الصبر، لا لأننا كنا نشعر بالجوع أو العطش (فمعظمنا لم يكن يصوم إلا حتى الظهر، طبقا لفتاوى أمهاتنا) وإنما لكى نطلق مدافعنا. كان من العيب أن ينتهي المؤذن من جملة كاملة ومدفعك لم “يضرب” بعد. نطلق مدافعنا ثم نتوجه إلى منازلنا عدوا ونحن نغنى “افطر يا صايم ع الكشك العايم…افطر يا عسكر ع الكحك أبو سكر”. ربما كانت هي الطريقة الوحيدة لإعلام أمهاتنا في البيوت بأذان المغرب، فلم تكن هناك مكبرات صوت ولا كهرباء، ولم يكن صوت المؤذن يجاوز عدة أمتار في محيط المسجد. كنا نعود إلى بيوتنا على وعد بلقاء قريب بعد الإفطار. يضع كل منا مدفعه في مكان أمين (فوق الفرن مثلا) انتظارا لعصر اليوم التالي والتحايل لسرقة أعواد الثقاب والتأهب لإطلاق المدفع مع قول المؤذن “الله أكبر”.


رمضان في بنى مجد (1)

رمضان في بني مجد (2)

رمضان في بني مجد (3)

رمضان في بني مجد (4)

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.