التشكيلي علي بن سالم.. عناق الجذور والأحلام

التشكيلي علي بن سالم.. عناق الجذور والأحلام

خالد جهاد

اللوحة: من أعمال الفنان علي بن سالم

تزدحم ذاكرة الفن بالكثير من الأسماء البارزة لكن بصمات بعضها تجعلها عصيةً على النسيان، فترتبط بتاريخ الشعوب وتراثها وتقدم وجهها الحضاري إلى العالم، ليصبح كلاهما صورةً عن الآخر، ولا شك أن لكل بلدٍ خصائصه، لكن الحضور الثقافي والفني في تونس له مذاقٌ آخر، كما أن حضور مبدعيها في شتى المجالات يضيف إلى أي حدثٍ فني ويزيده ألقاً، لذا نستحضر اليوم أحد أهم الأسماء الفنية التونسية، التشكيلي علي بن سالم..

لقب هذا الفنان بعميد الرسامين التونسيين وحق له ذلك، رغم أن تونس تمتلأ بالقامات والمواهب الكبيرة، فقد انتمى إلى معهد كارنو الفرنسي للفنون عقب الحرب العالمية الأولى، ثم كان أول رسامٍ تونسي يلتحق بمدرسة الفنون الجميلة في تونس عام ١٩٢٧، والتي كان طلبتها آنذاك من الفرنسيين وأبناء الجالية الإيطالية، فأظهر نبوغاً وموهبةً، خاصة من خلال أسلوبه الذي كان يستوحي من بيئته المحلية أفكار لوحاته، وهو ما سيتطور ليأخذ بعداً إنسانياً عالمياً دون أن يبتعد عن جذوره التي ساهمت في تكوين ذائقته ومخيلته وتشكيل هويته الفنية، فساهم في تأسيس متحف الفنون التونسية عام ١٩٣٢، وكانت أول معارضه الشخصية في قاعة الكوليزيه بالعاصمة التونسية عام ١٩٣٤، وبرغم تنقلاته بين فرنسا وتونس إلا أن وعي علي بن سالم لانتمائه الثقافي كان عاملاً مهماً في تحديد مساره وخطه الذي اختاره لنفسه، فطوره وحافظ عليه رغم انفتاحه على مختلف التجارب، فكان لعمله في متحف الفنون الأهلية في إحصاء تقنيات الصّناعات الحِرفيّة القديمة وتسجيل طُرق إنجازها وأشكالها أثرٌ في عمله بالمنمنمات الإسلامية القديمة، التي تتطلب الكثير من الدقة والتنظيم، وهو ما جعله يفوز بالجائزة الأولى في رسم المنمنمات عام ١٩٣٦ على مستوى الشمال الإفريقي..

ثم توالت بعدها الإنجازات والمشاركات في العديد من المعارض الهامة، فتم الاحتفاء بها في العديد من المحافل الدولية، والتي كان من أهمها معرضه في قاعة الاتحاد اللاتيني عام ١٩٣٨، ومعرضه في متحف علوم الإنسان في ستوكهولم، والتحق لاحقاً بالتدريس الثانوي عام ١٩٤٠ في مدينة صفاقس والتي أسس فيها مدرسةً للفنون الجميلة عام ١٩٤٤، وبعدها بعام غادر علي بن سالم تونس متجهاً إلى السويد ليتزوج ويبدأ مرحلةً مختلفة من حياته، قدم فيها الكثير من الأعمال واللوحات والمعارض والتي كانت تتم بين تونس والسويد وبعض الدول، ليختتمها بمعرضه في مدينة الحمامات التونسية التي كان يتخذها مقراً له عند عودته لتونس عام ٢٠٠٠، قبل رحيله عام ٢٠٠١ في ستوكهولم عن عمرٍ يناهز ال ٩١ عاماً، ونعته وزارة الثقافة التونسية التي استعرضت مسيرته وإنجازاته والجوائز التي حاز عليها، ومنها وسام الاستحقاق الثقافي من الدرجة الأولى، والذي منح من متحف الفن المعاصر في تونس والذي يحتضن عدداً من أعماله، إلى جانب الجائزة الوطنية للفن التشكيلي والعديد من التكريمات خلال سنوات حياته، والتي استطاع فيها أن يصنع شهرةً كبيرة ويحفر اسمه بين الكبار وينقل الإرث الثقافي لبلادنا إلى العالم..

فلوحات علي بن سالم ليست مجرد أعمالٍ لفنانٍ عادي، بل تعكس مدى ثقافته وتشبعه بالجمال الذي كانت تونس منبعه الأول، فنهل من فنونها وسحرها ومزجه بإرثٍ عريق وتاريخٍ ممتد لقرون، شاملاً كافة حضارات الشرق، فتقاطع ثقافات بلاد الهند وفارس مع الثقافة العربية والإفريقية في لوحاته جعلها تحمل ملامح خاصة جداً، تغوص بالمتفرج في عوالم تذكره بحكايات ألف ليلة وليلة، وتقدم الأجواء الممتلئة بالألوان الزاهية المبهجة والتفاصيل المبهرة الباذخة التي تتعانق مع الطبيعة بكل مكوناتها الخلابة من أشجارٍ وأزهارٍ وحيوانات، إضافة إلى تنوع الأزياء التراثية وتمثيل كلٍ منها لحضارةٍ أو ثقافةٍ من ثقافات الشرق، كما أن الفنان الكبير علي بن سالم كان يلجأ إلى الرمزية في أعماله ويحتفي بالمرأة كوجهٍ مشرق لتاريخنا، صانعاً معها وبها عالماً من الأحلام، وبطريقةٍ تظهرها بصورةٍ أقرب إلى تلك التي ظهرت فيها في المنمنمات العربية الإسلامية، والتي تلقي بظلالها على الكثير من منجزاته، ولم يكن يحصرها في شكلٍ أو إطارٍ بعينه بل أعطاها مساحةً للظهور والانطلاق دون تقييدها على اختلاف الملامح التي ظهرت بها، وكان أيضاً يهتم كثيراً بجعل العيون أداةً من أدوات التعبير عن حالة أو موقف أو شعور، بغض النظر عن سحرها الأخاذ وطريقته البديعة في رسمها، ليس فقط للمرأة بل حتى للرجل أو الحيوان جاعلاً من كل عنصرٍ في لوحاته صاحب رأيٍ أو وجهة نظر أو بطلاً، متنقلاً في لوحاته بين العديد من الحالات الوجدانية ونفحاتٍ من الماضي تنقل المشاهد إلى أجواءٍ حالمة تستحوذ على انتباهه وتشغل حواسه بامتلائها وشاعريتها وكثرة تفاصيلها، فاحترف الإبحار في عالم الجمال، واستطاع على مدار سنوات حياته أن يجعل من لوحاته فسحة أمل، وفرصةً نادرة للحلم، وصورةً عن إرث نتمنى أن تحتفي به الأجيال كما احتفى به الفنان التونسي الكبير علي بن سالم في مشهدٍ يشي بأن عناق الأحلام والجذور أمرٌ ممكن، وأن القلب الذي يفيض بالجمال وحده من يعرف الخلود..


علي بن سالم فنان تشكيلي تونسي مواليد عام 1910. انضم عام 1927 إلى مدرسة الفنون الجميلة وقبلها كان قد درس الفن في معهد كارنوا الفرنسي. ساهم بتأسيس متحف الفنون التونسية عام 1932. بعد سنتين نظم معرضه الشخصي الأول في رواق الروتوند بالكوليزي. عام 1936 حصل على الجائزة الأولى في رسم المنمنمات في الشمال الأفريقي. عام 1938 أقام معرضا شخصيا بقاعة الاتحاد اللاتيني. كما أقام معرضا في متحف علوم الإنسان بستكهولم، والتحق عام 1940 بالتدريس الثانوي بصفاقس ثم أسس مدرسة الفنون الجميلة هناك عام 1944. غادر تونس عام 1945 إلى السويد ليستقر هناك ويتزوج عام 1950 من الفنانة السويدية كريستين نيلسون.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.