اللوحة: الفنانة المصرية تحية حليم
“لو شكيت لحظة واحدة، كنت قتلته”، قال عبارته السابقة بخشونة لفظية واضحة، ثم كوّر قبضة يمينه في الهواء، سمعت أضراسه وهي تطحن الفراغ بقسوة. تقديرًا للموقف آثرت الصمت، كما أفعل دومًا في مثل هذه الحالات، فقط هززت رأسي كأنما أأسف للحادثة وأستنطقه المزيد من الكلام، ففعل دونما انتظار وقال: خرجت قبيل منتصف ليلة العيد، لأشتري طلبات للبيت، ارتديت جلبابي الفضفاض الأبيض، فأنا أجد راحتي فيه، خاصة مع ابتعادي عن الرياضة منذ عقود، فهو يخفي كثيرًا مما أرغب في مداراته عن العيون.
– أدرت رأسي حوله فوجدته فعلًا أقرب إلى هضبة صغيرة تعلوها رأس بشرية!
توقف هنيهة عن الكلام، كأنما تذكر أمرًا، ثم قال بحدة أكبر، عارف: “لو شكيت لحظة واحدة، كنت قتلته”، فرسمت على وجهي نظرة فارغة من أية معنى، فأنا حتى اللحظة لا أعرف ماذا حدث!
لم يتركني لخيالاتي، إذ قال: وجدت من يجاورني كتفًا بكتف، يسير لصق ذراعي الأيمن، شعرت بلفح أنفاسه الساخنة، على رغم أن الشارع لم يكن مزدحما في “شارع الرملة”، إلاّ أنه كان يمشي بجواري، يقف حيث أقف، يسير حيثما سرت، لعلي استغربت الرجل، غير أنني لم أعره اهتمامًا، فدومًا الحياة تزخر بأنماط من البشر لا حصر لها، ثم نظر إليّ من جديد و قد احمّرت عيناه وتطاير منهما شررًا كثيرًا، قال: “لو شكيت لحظة واحدة، كنت قتلته”، “لو شكيت لحظة واحدة، كنت قتلته”.
استأنف حديثه، قال: لم يكتف الرجل بذلك، بل صحبني حتى مدخل العمارة التي أقطن بها، حين مررنا ب”البواب”، الذي كان يتكئ على كرسيه العتيق، بادلني نظرة استغراب كأنما يقول: من هذا الرجل؟
لكنّي كنت في شغل عنه، تجاهلته بأَنَفَة وشردت إلى عوالم بعيدة، حيث رأيت سريري يتراقص أمامي، يناديني بوّد، يدعوني للنوم بعد جهد مشوار كبير، فلمّا وصلت للسلم، وجدت الرجل يرافقني، سألته: أنت ساكن هنا؟
فقال بأدب وعينيه لا تغادران موطئ قدمه: نعم، في الدور الثاني.
فقلت: غريب، فأنا ايضًا أقطن في نفس الطابق!، لكن لا يوجد غيري هنا!، باقي الشقق هي مخازن لمحلات تجارية. غير أنني رددت على نفسي، قلت: لعله يعمل في أحد تلك المتاجر، أو لربما، ثم طرحت تفسيرات كثيرة تبرر وجود هذا الشخص الغامض!
فلمّا وصلت إلى باب “شقتي” إذا به يصرّ على اصطحابي، يقف خلفي، على عينيه نظرة شغف وتلهّف، لكني لم أهتم، همست لنفسي: لعله سائل من أولئك الذين يسألون بإلحاح، لن ألتفت إليه، فلما دفعت الباب للدخول، وجدته ينحني لأسفل بحركة مسرحية درامية، ثم يعتدل بقامته القصيرة، يقول بدماثة خُلق كبيرة: أعتذر إليك، ثم انصرف، أتبعته بعيني حتى توارى في عتمة السلالم، حين غلقت بابي، شعرت بتمزق في جيب جلبابي، فأبصرته باستغراب، تحسست موضع “محفظتي”!
حينما توقف “سمير”، عن سرد بقية حكايته مع اللص، الذي تبعه كظله، ليكرر عبارته الخالدة، ليرى تأثير كلماته عليّ، أيقنت ما يرمي، و قبل أن أسأل من جديد، وقبيل أن يشنّف أذنيّ بمأثورته، فوجئت بأننا على أعتاب ميدان “الشيخ سالم”، الذي امتلأ عن بكرة أبيه، كما توقفت سيارات أجرة لخطيّ “4، 5” عن الذهاب والعودة من حي “الصوفي”، نزل جميع ركابها، تجمهر زبائن المحلات وأصحابها على الجانبين، جميعهم وقفوا وبصوت واحد، قد سبقوا “أبو سمرة” وقالوا: “لو شكيت لحظة واحدة، كنت قتلته”. حينئذ ارتسمت على وجهه بسمة شملت الخلق المتحلّقين حولنا، استقرت بين عينيه نظرة تجمع بين براءة شديدة وسذاجة لم تتنزّل إلاّ على بضعة نفر منذ أن هبط أبينا “آدم” على الأرض، قال وعلى وجهه نظرة استغراب: هو “الحرامي” ده سرقكم برضه!”