أيمن جبر
اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس
انطلق نقاش صاخب بيني وبين أخي وأختي، يضغطون علي بقوة كي أوافق على زواج أمي الأرملة التي جاوزت الأربعين من عمرها، وأنا أرفض بعناد وتحامل، حجتهم أن جميعهم متزوجون ولهم حياتهم، لم يتبق إلا أنا التي سوف أزف قريبا، ستكون أمي وحيدة ومن حقها أن تقتنص فرصة الزواج، هو أرمل طيب السيرة، ونعرف عنه ما يجعلنا نطمئن إلى أنه سوف يَصونها.
لم أكتف بالرفض، أهنتها أمام الجميع، فما الذي يجعلها تتزوج ثانية، هل مازالت تشتاق للرجال!، لماذا لا تظل وفية لذكرى أبي!، لماذا تجلب لنا الإحراج والتعرض لألسنة الناس!، تلك الزيجة سوف يستنكرها جميع من نعرف. وتملكتني طاقة شريرة جعلتني لا أتورع عن جرح وإهانة وقهر أمي.
قمت بإطلاق حملة في العائلة كلها لمعارضة الزواج، ثم اتصلت بالرجل المتقدم إليها وأهنته، حرضت أبناءه ضده، طلبت منهم في سلوك صبياني أن يُبعدوا أباهم عن أمي؛ وإلا سوف أطاردهم جميعا في مقار عملهم وأفضحهم، عرفوا من عنادي وشراستي أنني لن أتوقف عن مقاومة الزواج، سَحب الرجل عَرْضه وآثر السلامة.
استسلمت أمي لقدرها، رضخت لعنادي وأنانيتي، وبعد شهور قليلة تم زفافي.
تبادلنا جميعا زيارة أمي بكثافة، وأكثرنا من الالحاح عليها بزيارتنا، لم يُفتح الموضوع ثانية، ولكنه ظل حاجزا بيني وبينها.
وقع علينا الخبر كالصاعقة، أمي تلتقي برجل في الخفاء، زلزال عنيف طاح بعقولنا جميعا، شبح الفضيحة والبلوى تجسد أمامنا، نشب صدام عنيف بيننا وبين أمي، اعترفت بزواجها عرفيا من رجل لديه ظروف خاصة، زوجته مريضة وله أبناء، تزوجا عُرفيا وأسس لها مسكنا يلتقيان فيه، وفر لهما الزواج اختلاس وقت من عمرهما يعوض كلا منهما مانقص من حياته، يتبادلا الحياة الزوجية الطبيعية دون توتر، وعبرت عن ذلك بأنه “زواج لا يؤذي أحدا”.
ضغطنا عليهما بقوة وقسوة، لابد أن يُسجل هذا الزواج رسميا، لم يكن الأمر يسيرا على زوجها، ليس في مقدرته مواجهة امرأته وأولاده، لم أمهلهما الوقت للتفكير، فعلتها ثانية، وَشَيْت بهما إلى أبنائه وزوجته المريضة، ها أنا ثانية أفرض إرادتي على أمي، كان وقتا عصيبا كئيبا، انتهى بأن طلقها أمامنا ومزق ورقة الزواج العرفي.
عقب الطلاق صرخت في وجوهنا: “مازلت بشرا مثلكم، كلكم ينعم بمن يهتم به ويُؤنسه، لقد غدر أباكم بي عندما تركني وحيدة، كم أتمني لو أنني التي مت، وعندها كان سيتزوج ولن تستطيعوا قهره مثلما قهرتموني، سامحكم الله”.
اتفقنا جميعا على التناوب في استضافة أمنا، تعيش معنا وتأنس بأحفادها، كان لها مع كل بيت من بيوتنا قصة، فهي ضيف طارئ، ولكل بيت خصوصيته وروتينه اليومي، لم ندخر جهدا في محاولة إشعارها بالألفة التي أحيانا تكون مصطنعة، وأحيانا أخرى تنفلت هنات من التبرم وضيق الصدر من أي فرد من أفراد البيت المُضيف.
لم تنس لي أمي تصدري بالتدخل في حياتها وتحويل مسارها ومنعها من الزواج، كانت تبيت عند إخوتي أياما قليلة ثم يأتي دوري في استضافتها، فتطيل مكوثها عندي، تتعلل بأنها تحب بيتي وابنتي، فأنا ابنتها الصغرى، آخر العنقود كما تقول، لا تمكث فترة محددة بل تظل عندي حتى تنفلت كلمة تذمر، شكوى، أو تأفف من زوجي، إن لم يحدث ما تنتظره، تترصد كلمة مني تتعمد فهمها خطأ ثم تتغير ملامح وجهها وتنصرف متجهمة في صمت، تغادر وقد سجلت موقفا يُثبت أنني لم أتحملها كما ينبغي .
الغريب أنني عقب كل موقف تتصيده، لا ألمس في وجهها أو روحها أي مظهر للضيق يتملكها، أحس سرورا خفي يكاد يخرج في شبه ابتسامة من جانب شفتيها، فقد نالت ما كانت ترجو من زيارتنا، لم يكن زوجي أبدا فظا معها، فقط كان مندهشا من عدم المساواة في مدة المبيت عند أبنائها.
تصادف أنه في يوم، طرأ علينا ظرف خاص جدا، من النوع الذي لا ينبغي لأحد خارج الأسرة أن يشهده، خَرجت من زوجي كلمات صريحة تحت تأثير ضغط الموقف، فكان جرحا لأمي، ويا للعجب، لم تُبد أي صدمة أو ألم لجرح كرامتها، أعطتنا ظهرها في برود ثم انصرفت، كانت تلك الحادثة هي المبرر الحاسم لرفضها المبيت خارج بيتها.
أصبحنا نزورها تباعا، نحاول ملأ الفراغ والوحدة التي تتعلل بها، لكن في كثير من الأحيان، عندما يزورها أحدنا، كان يسبق الزيارة نية مستترة في موعد أو ارتباط بعد الزيارة، فتكون الزيارة عجلة و بلا طعم، سريعا أدركنا انه لا بد من حل جذري، وجدناه أخيرا في تدبير عملا تجاريا لأمي تقوم بإدارته، وبالفعل انشغلت فيه واستراح الجميع، ولم نعرف؛ هل صمتت وسكنت، لأن العمل شغلها وأعطى طعما لحياتها؟ أم أسكتها اليأس من جدوى معاودة الشكوى؟، أم هناك سبب لا نعرفه ولا نفهمه؟
مرت الأعوام ثم حدثت المأساة التي هزت كياني وعصفت بحياتي، مات زوجي وأنا في أوائل الثلاثين من العمر، حادث مريع راح ضحيته زوجي وابنتي، نجوت أنا وابني الذي لم يتجاوز السادسة من العمر، بعد الشفاء من الجراح والصدمة العنيفة، سقطت في بئر الوحدة والحرمان الذي رميت أمي فيه من قبل دون رحمة.
نعم ابني معي، لكن ما فعلته بأمي زاد من رُعبي ويأسي، وضاعف من الصراع النفسي أن انتقلت أمي عندي لتعينني في تربية ابني، ولتكون حصنا من كلام الناس، فالأرملة عرضة للشائعات والقيل والقال، وها أنا قد حُكم علي بما حَكم به القدر عليها، وأصبحت أشعر بما كانت تشعر به، الرغبة في شريك للحياة، اكتشفت أن هذه الرغبة ليس لها علاقة بالشباب أو الشيخوخة، فطالما في الإنسان حياة لن تغادره بشريته وأشواقه للأنيس وبقية عوامل تعلقه بالحياة الطبيعية.
تقدم إلي رجل مناسب، مطلق وبلا أولاد، يريد أن نتشارك الحياة، رفضت، تكرر الطلب وأنا أرفض، مع كل رفض أشعر بألم من يَستنزف فرصه التي قد لا تعود، اكره الوحدة ولا أطيقها، هل استنزفت فرصتي في الأنيس وشريك الحياة مرة واحدة كما حكمت من قبل على أمي؟ إن الحاجة لأنيس فطرة مُلحة ما دامت تجري دماء في عروقي، لقد أغلقت زنزانتي على نفسي بموقفي القديم من أمي، كيف أقبل ما حَرمته عليها، ما موقفها مني إن قبلت الزواج ثانية، انا عاجزة تماما، لا أستطيع أن أعيش حياة أمي ولا أجرؤ أن أفاتحها في هذا الامر، هو أمر محسوم، لن تغفر لي ولن تعذرني.
استغرقْت في تلك الافكار وأنا غائبة الوعي تماما عمن حولي، ومع دوران شريط الذكريات واستسلامي لمخاض الأفكار والهواجس، جاءني صوت من قريب يوقظني من كوابيس اليقظة.
تزوجيه.. لن ألومك.. أتظنين انني لن أغفر لك، لقد غفرت لك منذ زمن بعيد، أكره أن تخوضي ما خضته يا بنيتي، الوحدة شيء مقيت، تزوجيه ولا تهتمي بي فأنا بخير، تزوجيه ولك الخيار في أن تعيشي معه وتتركي حفيدي لي أربيه، توقفي عن استنزاف فرصك في حياة هانئة طبيعية.
ابنتي، إن الموت قدر، وكما يقولون الموت راحة، ولكن العُقدة تكمن فيمن فُرض عليه أن يواصل الحياة، كيف يحيا؟
استمعت لها ولم أستطع الإجابة، ولكن بدأ الهدوء يتسرب إلى نفسي، رغم أن شعوري بالذنب ظل يكدر مشاعري. وفي اليوم التالي قلت لامي، وكأني أحاول أن أمنحها أي تعويض: “إن تزوجتُ سوف نعيش معك أو تعيشي معنا”، قالت الأم: “ادعيه للغداء غدا”
في اليوم التالي، وقبل مجيء المتقدم لي بساعات، دق الباب وطلبت أمي مني أن أفتح للقادم، فتحت الباب ورأيت رجلا عجوزا خُيل إلي أنني أعرفه من قبل، سأل عن أمي فناديت عليها، وقالت لي أمي: “سلمي على فلان، وذكرت إسما لا أنساه ولم تسمعه أذني منذ سنوات طويلة، يا إلهي إنه زوج أمي الذي طلقها بعد الزواج العرفي!، سلمت عليه وأنا مذهولة، ولكنه كان ودودا لي ولأمي، لم أفهم ولم أسأل، ولكني استرحت كثيرا، وازدحمت التساؤلات والآمال في خاطري، هل ظل وفيا لها طوال تلك السنوات؟ هل من الممكن أن يكون الوقت مناسبا لإصلاح ما أفسدته منذ عشر سنوات؟ هل يستجيب الله لي ويكون الحل السحري في زواجه من أمي؟ فلا بد أن زيارته في هذا الوقت بالذات هي مقدمة لشيء ما!
أخذ يتحدث معي بينما أمي تجهز للغداء، قام بتعزيتي ومواساتي وأخذ يشجعني بأن الحياة لا تتوقف وأنها أقدار الله، وما علينا سوى التسليم ومواصلة الحياة.
آنست إليه كثيرا وتملكني الهدوء، ثم استأذن للانصراف بدون مقدمات، رجوته بنبرة متوسلة ونادمة أن يبقى ليتغدى معنا، ولكنه اعتذر بلطف، ولم تلح أمي عليه بالبقاء، وكأن هناك اتفاق بينهما على هذا السيناريو.
جاء الضيف ونال من أمي كل ترحيب وتطرق الحديث بعد الغداء إلى موضوع الزواج، وافقت أمي ووعدته بأن يتم الإعلان قريبا عن خطبته لي.
كانت أمي تعلم أنني لن أهدأ حتى أفهم ماذا حدث وماذا سيحدث.
خاطبتني أمي بنبرة قوية وتختزن كل ما اختزنته في السنين الطويلة الماضية، نبرة توبيخية خرجت من فم مبتسم: “وهل كنت تظنين أنني أدع طفلة مثلك تتحكم في حياتي!”، لقد أكرهنا الجميع على الطلاق، ورضخنا ظاهريا لكم، ولكنه طلاق المُكره، أسمعناكم ما أردتم سماعه، وقطعنا أمامكم الورقة التي كانت بيني وبينه، ولكن لم نكن لنسمح لكم أن تصادروا إرادتنا وتعطلوا حياتنا وتكدروها، لم نعترف بما حدث، كتب ورقة عرفية ثانية، وكان لدينا من العقل والحكمة أن نضبط مشاعرنا وسلوكنا، في السنوات الأولى كان اللقاء قليلا ولكنه كان كافيا لنشعر بالأنس والقرب والود، كنت أتعمد بصبر وحكمة أن افسد مشروع مكوثي في بيوتكم بالتناوب، وحرصت أن يحدث السبب المباشر لتوقف مبيتي في بيوتكم؛ في بيتك أنت، لكي أسد على فكرك أي محاولة للبحث ورائي، حتى عرضتم علي العمل التجاري الخاص الذي وفر لي مزيدا من الأعذار لأمارس حياتي مع زوجي، ولتنشغلوا عني وأنتم مطمئنون أني لم أصبح عالة عليكم، وكنت أسافر سنويا للعمرة لأكثر من شهر، وكان هو الشهر المكتمل الذي نجتمع فيه معا بدون رقابة أو حذر، توفيت زوجته المريضة قبل وفاة زوجك بعام، وبعدها تزوجنا رسميا دون إعلان، وهممنا بأن نعلمكم؛ لولا وفاة زوجك التي فاجأت الجميع، فصبرنا حتى تنضج الأقدار ونصل لتلك المرحلة.
تزوجي ابنتي واتركي لي ولدك، فسوف يعيش معي ومع زوجي، ولا تفكري في الماضي، فما حدث قد حدث، وليبارك الله لك زواجك ويعوضك عما حدث لك.