د. جمال عبد الرحمن
اللوحة: الفنان الأميركي فردريك أرثر برديجمان
الهدف من هذه المقالات الموجزة حول الأندلس ليس التأريخ بطبيعة الحال، بل الدعوة إلى مناقشة الجانب الأوروبي مناقشة موضوعية، تعتمد على الوثائق وعلى المنطق، وتبتعد عن السرد العاطفي. الباحث الأوروبي يبحث عن الوثائق رغبة في معرفة الحقيقة، وهو لا يرفض الوثائق العربية، بل يعكف على دراستها دراسة بعيدة عن الهوى.
أما نحن في العالم لعربي فمشكلتنا أننا مازلنا ننظر إلى الأندلس على أنه «الفردوس المفقود» (شاعرنا يخاطب أهل الأندلس قائلا: ما جنة الخلد إلا في دياركم)، وهو مصطلح يحتاج إلى توقف، ولعله من المناسب أن نطرح سؤالا: هل كان الأندلس «فردوسا» بالفعل؟ تعالوا نذهب إلى اليونان القديمة، وهي تقع من أوروبا موقع الأندلس من العرب تقريبا. بالغ الناس في الإشادة بالحضارة اليونانية حتى جعلوها خيرا محضا، جنة الله على الأرض، لكن البحث الموضوعي أثبت أن المجتمع اليوناني القديم لم يكن خيرا كله، بل كان يجمع بين الخير والشر.
لاحظ أن الباحث الأوروبي يراجع نفسه استنادا إلى وثائق، ولا يعترض أحد، فالحكمة ضالتهم التي ينشدونها. من هذا المنطلق – منطلق معرفة الحقيقة – قالوا إن الأندلس لم تكن جنة الله على الأرض، من حيث تطبيق العدل. أما من حيث الجمال المادي فلم تكن الأندلس بالجمال الذي نتصوره. (سنرى لاحقا أن الآثار الأندلسية التي نراها على هذه الصورة اليوم ليست من عمل المسلمين وحدهم، بل أسهم فيها الإسبان في القرن الأخير). ما لا يختلف عليه أحد هو جمال الطبيعة في الأندلس، لكن هذا الجمال ليس حكرا على هذه الأرض، ويكفي أن تتجول في بلاد الله الواسعة لكي تدرك أن بلادنا الإسلامية، وبلاد أوروبا وأمريكا الجنوبية مثلا، فيها من الجمال الطبيعي ما لا يقل عن جمال الأندلس..
وحول ولع الباحثين الغربيين بالوثائق والحقائق الموثقة، مقابل اعتمادنا في العالم العربي على الرواية والحديث العاطفي المرسل الذي لا يصمد أمام مناقشة أو تمحيص، أورد ما صادفته من زميلتي كارولينا الباحثة من الولايات المتحدة في إحدى سفراتي إلى مدريد. وكنت كلما وصلت إلى هناك أذهب لتحية الدكتورة مانويلا مارين، رئيسة قسم الدراسات العربية بالمجلس الأعلى للبحث العلمي آنذاك، وكانت تسألني “كم يوما ستكون معنا؟”، فإذا كانت المدة أسبوعين أو أكثر فإنها تخصص لي مكتبا.
خصصت لي ذات مرة مكتبا، ثم قدمتني إلى زميلتي المؤقتة، التي تشغل المكتب المجاور: “هذا جمال، من مصر، وهذه كارولينا، من الولايات المتحدة”، ثم انصرفت إلى عملها. قلت لكارولينا إنني سأبدأ العمل في اليوم التالي. ولاحظت أنها تنظر في كتاب عادي، ثم ترسم خطوطا بالمسطرة. دفعني الفضول إلى أن أسألها: “ماذا تفعلين؟” أجابت: “أعيد رسم الحي اليهودي في قرطبة، بناء على وصفه في هذا الكتاب”.
كارولينا يهودية الديانة، تريد استعادة بيوت أجدادها، وهي تعتمد في ذلك على وثائق، وعلى تقنيات حديثة. هكذا اليهود، عندما يطالبون بشيء في إسبانيا أو في غيرها، تكون أوراقهم جاهزة. هل فهمت الآن لماذا حصل اليهود المطرودون من إسبانيا على الجنسية الإسبانية، بينما لم يحصل الموريسكيون على هذا الحق؟