د. جمال عبد الرحمن
اللوحة: الفنان الإسباني برناردو بلانكو إي بيريز
ما أن تذكر الأندلس حتى يذكر الفردوس المفقود، ويتبادر إلى ذهن الناس حكاية البداية متمثلة بطارق بن زياد القائد الذي أحرق السفن بعد عبوره المضيق وألقى خطبته الشهيرة: «العدو من أمامكم والبحر من ورائكم، وليس لكم والله إلا النصر أو الشهادة». وكذلك يتبادر إلى ذهنهم نهاية الأندلس متمثلة ببكائيات وما قالته عائشة الحرة والدة آخر ملوك غرناطة أبو عبد الله الصغير موبّخة حين رأته يبكي: «ابك كالنساء ملكا لم تدافع عنه كالرجال»، وهاتان الروايتان تكادان تختصران حكاية الأندلس، على الأقل عند عامة الناس من غير المطلعين.
لكن، هل حدث الفتح الإسلامي للأندلسي؟ وهل قال طارق بن زياد في خطبته ما قاله، وهل وقفت عائشة الحرة توبخ ابنها لتراخيه في حماية ملكه؟ أم ثمة روايات أخرى لما حدث عام الفتح ٧١١م؟ وعام سقوط غرناطة ١٤٩٢م.
“لم أكن أنتوي” التوقف كثيرا عند بدايات الفتح الإسلامي للأندلس، لكن الكتاب الذي صدر عن مؤسسة البابطين يتضمن دراسة لباحث إسباني عكف على قراءة وثائق كنسية. يقول إن الحوليات التي درسها لا تشير إلى شيء حدث عام 711، وهو أمر يدعونا إلى التوقف قليلا. يتفق الباحثون الأوروبيون على أن السنوات الأولى للفتح – هم يسمونه غزوا بالطبع – كان يكتنفها الغموض، ومنهم من يذهب إلى أنه لم يكن هناك غزو أصلا (يستندون إلى أن موسى بن نصير كان قد بلغ السبعين من عمره، ومن ثم لم يكن يصلح لقيادة جيش، خاصة في بلد يفصله بحر عن الدولة الإسلامية). يؤكد الباحث أن الوثائق الكنسية كانت ترصد كل شيء، ويرى أنه عندما لا تشير تلك الوثائق من قريب أو من بعيد إلى “شيء حدث” عام 711، فللمرء أن يشكّ في حدوث الغزو أصلا. بعد فترة غير قصيرة تشير الوثائق إلى وجود المسلمين، وترى أنه عقاب إلهي للمسيحيين الذين انهمكوا في الملذات وخالفوا تعاليم المسيح. الشيء الغريب هو أن الجانب الأوروبي يتحدث عن وصول مسلمين إلى إسبانيا قبل طارق بن زياد، بل قبل طريف: إنهم التجار الذين عرف الإسبان من خلالهم مبادئ الإسلام. أضف إلى ذلك أنباء عن حفريات لقبور مسلمين في فترة سبقت عام 711. لا أدعو بالطبع إلى تبنى وجهة النظر الأوروبية كاملة، بل إلى دراسة تراثنا التأريخي والأدبي، حتى يمكننا الاتفاق أو الاختلاف مع الأوربيين فيما ذهبوا إليه.
وإذا توقفنا عند الفترة الأخيرة التي كان فيها حكم إسلامي في غرناطة. نجد كثرة البكائيات العربية على ما يسميه البعض “الفردوس المفقود”، ويقولون إن أبا عبد الله الصغير أضاع غرناطة، وخان شعبه. يقولون أيضا إن الملكة عائشة الحرة وبّخت ابنها حين بكى لدى مغادرته غرناطة، وقالت له: “ابك كالنساء ملكا لم تدافع عنه كالرجال”.
ما رأيكم – دام فضلكم – في أن معظم ما كتبه المؤرخون العرب عن هذا الموضوع كان من وحي خيالهم؟
منذ سنوات نشر باحث إسباني وثيقة في مجلة الأندلس تهب بمقتضاها السلطانة “فاطمة” بعض أملاكها لأعمال البر. كان ذلك قبل سنوات قليلة من سقوط غرناطة. يعنى حتى اسم والدة أبى عبد الله الصغير ليس صحيحا، أو هو محل نقاش على الأقل. لاحظ أن من يصحح الاسم – اعتمادا على الوثائق – باحث إسباني. الأوروبيون يعتمدون على الوثائق في أي شيء، ونحن دائما نلقى خطبا رنانة، دون أن نكلف أنفسنا عناء التحري عن الحقيقة. فإذا كان اسم السلطانة مغلوطا، ألا يدعونا ذلك إلى التوقف عند تلك المقولة التي نسبت إليها؟
لاحظ أنه – طبقا لكتبنا الصفراء – كل الناس فصحاء. إن العبارة التي نسبت إلى السلطانة تنمّ عن مستوى عال في الفصاحة، فهل درسنا سيرة السلطانة حتى نستطيع أن نؤكد أو ننفى قولها تلك العبارة؟
ثم زعموا أن أبا عبد الله الصغير قد تقاعس عن أداء واجبه، وأنه لو أدّاه ما سقطت غرناطة. هذه المقولة لا يمكن أن تصدر عن باحث يضع في اعتباره تاريخ أوروبا والبحر المتوسط قبل قرن كامل من سقوط غرناطة. إن المتابع لتاريخ شبه جزيرة إيبريا وشمال إفريقيا يدرك أن غرناطة لم تكن أكثر من موضع من مواضع النزاع بين الامبراطوريات المسلمة المتعاقبة في إفريقيا من جهة، والممالك المسيحية في شمال إسبانيا من جهة أخرى. إذا ساءت الأحوال في شمال إفريقيا، وتأخر حكامها عن نصرة الأندلس، فالنتيجة الحتمية لذلك هي توسع الممالك المسيحية على حساب ما تبقى من الأندلس. هل يتخيل باحث عاقل أن تتصدى غرناطة منفردة للإمبراطورية الإسبانية الوليدة؟ ماذا كان بوسع أبى عبد الله – الذي يحكم مملكة صغيرة – أن يفعل في مواجهة فيرناندو الذى تدعمه أوروبا؟
من ناحية أخرى، لو عكف مؤرخونا على دراسة اتفاقية تسليم غرناطة لتراجعوا عن ذلك الاتهام الظالم. لم يكتف أبو عبد الله الصغير بالدفاع عن حق المسلمين في ممارسة شعائر الإسلام والاحتكام إلى شريعتهم، بل فرض على فيرناندو القبول بشرط مجحف للمسيحي المنتصر: إذا أراد المسلم أن يدخل في المسيحية فلا يعتد بذلك إلا بعد إقرار الفقهاء المسلمين، وإذا أراد المسيحي أن يعتنق الإسلام فإنه يصبح مسلما على الفور! هل يفكر “خائن” في وضع شرط كهذا؟ كان أبو عبد الله يعمل وفقا لمعطيات غاية في الصعوبة، في مواجهة ممالك مسيحية اتحدت تحت حكم فيرناندو، وقد حصل لمسلمي غرناطة على أفضل معاهدة يمكن أن يقبل بها طرف منتصر. لذلك فإنني أرى أن السلطانة لم تكن لديها سبب لتوبيخه. من المؤسف أن يلقى مؤرخونا اللوم على أبى عبد الله، وألا يجد ملك غرناطة إنصافا إلا من الباحثين الأوروبيين.
أرهقتني كتب التاريخ العربية وأنا أشارك في ترجمة كتب التاريخ الموريسكي أو مراجعتها: الكتب تسمى أي سلطان في غرناطة “ابن الأحمر”، وهي تسمية صحيحة، لأن ابن الأحمر جدهم جميعا، لكن هذه التسمية التي تغفل اسم كل سلطان تجعل الباحث يبذل جهدا كبيرا لترتيب الأحداث التاريخية.