اللوحة: الفنان الأميركي ستانتون ماكدونالد رايت
حين أتاحت لي ظروف العمل في رسالة “الماجستير” 1977، أن ألقى الشاعر الراحل أحمد رامي في شيخوخته المتجعدة، لم أكن أدرك القيمة الكبيرة للدفتر الذي استأذنته فيه، فأهداه إلي، وفيه بخط يده قصائد ومسودات وتصحيحات ذات دلالة بعيدة على طبيعة عملية الإبداع عند هذا الشاعر، وهي نصوص تمتد ما بين عامي 1954-1975.
ولم أكن أدرك أيضاً القيمة الكبرى للوثائق الصوتية التي سجلتها له، ولا لتلك الملفات من قصاصات المجلات والصحف التي شاهدتها وقد اشتد بها الاصفرار والضعف في خزانة “رامي”، كل هذا لم أكن أدرك أنه سوف ينتقل إليّ أنا.. لقد كان “رامي” يقلبها بعناية حريرية، ثم يقف عند فِقَر وفِقَر، وصوَر وصوَر، فيذهل عني إلى التاريخ الذي يتخايل أمامه، وينعقد الدمع أحياناً على عينيه، وأنا أتابعه وأصدقه في تلك المشاعر الحقيقية في تلك الشيخوخة الواهنة!!
بعض كلمات “رامي” وعبراته كانت ضوءاً كاشفاً عن جوانب خفية من تاريخ الأدب والفن في فترة عمرت بأسماء كبيرة مثل: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعباس العقاد والمازني ومطران وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، بعض هذه الجوانب لم يكن متاحاً له أن ينكشف إلا في لحظات من البوح المطمئن، لأنها لا توجد إلا في المصادر الحية.
الشهادة التي كتبها الشاعر “حافظ إبراهيم”، كانت شديدة الأهمية عند رامي، وفيها يصفه بأنه “شاعر موفق الشيطان، بعيد مرامي المعاني، لا يتسلق على كلام غيره، وأنه أكرم شعره عن ركاكة الذين يضعون أمامهم الشعر الغربي ثم يترجمون معانيه، فيجيء أسلوبهم وهو يرتضخ أعجمية”.
وعلى الرغم من الحزن الذي يتفطر له قلب رامي وشعره، فقد كان مرحاً عذب الحديث جذاباً، وكأن نعمة الله عليه بالعذوبة والمرح، كانت الورود الصبوحة التي تهون عليه قسوة أشواك الحقيقة التي تمور بها الأحزان في جوانحه، وتزاحم التجاعيد في شيخوخته.
أما شوقي بك أمير الشعراء، فقد جمعت بينه وبين “رامي” علاقة حب عميقة، أساسها إحساس الشاعر الشاب الذي يكبره الأمير بأكثر من ثلاثين عاماً، بأنه أمام قامة شعرية ضخمة، تهش للنغم الجديد والصور المبتكرة، وترى أن له “مذهباً في السهل ليس يرام “، واستمرت هذه العلاقة الحميمة بينهما، حتى رثاه رامي عام 1932.
لكن الذي يتأمل أقوال رامي وأوراقه أيضاً، يكتشف نمطاً معقداً من العلاقة بينه وبين شوقي، نمط يجمع الحب الشديد، إلى الحذر الشديد، إلى الشعور الشديد بالخطر، وهو حذر وخطر لا يهبُّ من نافذة الشعر فحسب، بل إنه يهب من باب “أم كلثوم” على نحوٍ أعنف، ذلك أنه لم تكد سنوات قليلة تمر بعد تعرف “رامي” بأم كلثوم عام 1924، حتى أصبح رامي هو كل الشعر عند “أم كلثوم”، على حين أصبحت أم كلثوم، كل الحياة عند “رامي”.
ذلك الشاعر الذي وقف عليها مطار فكره وشعره وصمته أيضاً، حتى إنه ليقبل على كُرهٍ منه أن يُنطِقَ شعرَه باللهجة الدارجة، وهو المنحاز إلى فصحاه، كرامة لأم كلثوم.. أم كلثوم كانت قد وقفت بثقة على هذا الوضع النفسي عند شاعرها الأثير، لكنها لم تقف عليه إلا مطار تفكيرها في فنها فقط، فراحت بذكاء الريفية المصرية بل بدهائها، تضعه على أعراف الحب، في المنطقة الوسطى ليظل مسكوناً بالقلق، مسجوناً بين الماء وبين النار، لا يغادره الشعور بأنه قد يستحيل في لحظةٍ، مَدىً من غبار.
وهذا الوضع المسكون بالترقب والخوف، هو الذي جعل رامي يخشى على مكانه عند أم كلثوم، إذا قامت الصلات بينها وبين شاعرية ضخمة مثل “شوقي”، بل جعله يعقد اتفاقًا معها، على ألا تغني لشوقي أبداً.. فلا تملك إلا أن تفعل!!
ثم يقع المحظور، وتجري الأحداث عاصفة.. على غير ما تشتهي السفن..
سألتُه ذات سهرة في بيته: كيف كان ذلك؟
– كان ذلك عام 1931، عندما قابلت “أم كلثوم” “شوقي” لأول مرة في حياتها بشارع فؤاد بالقاهرة، فدعاها شوقي لتغني في بيته “كرمة ابن هانئ”، فذهبت وغنت وتألقت، وفي صباح اليوم التالي، ذهب شوقي بنفسه إلى بيت أم كلثوم بالزمالك.. فاجأها بتقديم مظروف حسبته نقوداً عن غنائها الأمس، فاستدرك يخبرها أنه هدية من وحي أم كلثوم!! ولندعْ رامي يقص ما حدث:
لاحظت اهتماماً غير عادي من جانبها بهذه القصيدة، خصوصاً أن شوقي قد أورد اسمها صريحاً في النص مرتين:
سل أم كلثوم من بالشوق طارحها
ومن وراء الدجى بالشجو ناداها
وهو البيت الذي صار بعد ذلك، “حمامة الأيك من بالشوق طارحها…الخ
يا أم كلثوم أيام الهوى ذهبت
كالحلم، آهاً لأيام الهوى آها
وهو البيت الذي غيرتهُ بعد ذلك، فكان: يا جارة الأيك أيام الهوى ذهبت.. كالحلم آهاً لأيام الهوى آها!!
قلت له وأنا أحاوره:
وماذا بعد؟
قال: خلاف!! غضب!! جفوة!! ثم قطيعةٌ.. قطيعةٌ فشلتُ أنا في الاستمرار فيها.. لكنها، ومن أجل خاطري، لم تغنِّ القصيدة إلا بعد أن مات “شوقي” بأعوام.