رقيب الوصابي
تعدُّ الأنثى وسيلة لتحقيق السعادة، وإكمال نقص النفس، والعثور على العزاء من وحشة العالم، وقد يتجلى حضور الأنثى على مستويين:
الأنثى الملاك والأنثى الهلاك، فالأنثى الملاك هي تلك التي تكمل الذات، وتنشر ألويةَ التفاؤل والعزاء. وتتمثل في شعر الجيلاني بنوع من الفرح الذي يعيده إلى فضاءاتِ الفردوس المفقود، وكأنه عاد إلى امتزاجه بالوجودِ، وعثر على حريته الكاملةِ، وكأن كل شيء في الشاعر قد تحرر، وفقد ثقله الترابي والمادي، وبذلك تغدو الأنثى وكأنها رمز للكمالِ القديم والمستحدث، فيها ومن خلالها تسطعُ كراماتُ الطبيعةِ وآياتها، والحب بالنسبة لها يبررُ ذاته بذاتِهِ، وليس له حاجة إلى ما دونه أو سواه، إنه مقدسٌ ومتى حلّ في النفس حررها، وطهرها من أدرانها ومن سقطاتها، ومن البؤسِ الذي تحل فيه، والحبُ معصومٌ لا قبلَ له بالخطأ والخطيئةِ، إنه أبعد من وحدة الدين، ومن عاداتِ المجتمعِ، ومن روابطِ الزواج، ويكفي أن يخفق في قلب المرأة حناناً ومودة حتى تحس أنها متطهرة من ذاتها وعواطفها، وقد يكونُ الحبُ مدنسًا في الحلال الاجتماعي، أي الزواج، ويستحيل عندئذٍ إلى نوعٍ من الزنى الشرعي، وقد يغدو مقدسًا بالحرامِ من الحرامِ والحرم في مداهما الاجتماعي، وذلك حين يكونُ نوعًا من التعبدِ للمحبةِ، والأنثى الملاك لا تنال بنوالٍ، يبرح الوجد إليها مقيمةً ونازحًة كأنها من هباء في النفس، ومن الحنين والألم والحزن، وكأنها المثال الذي يتراءى في سرابه، ومن هنا صحبه الألمُ الدائمُ والحزنُ المقيمُ، والتغرب والالتياع الأصم، كل هذا وأكثر منه يمكن أن نتلمَّسه في ديوان “الوردة تفتح سرتها”، الديوانُ الذي يقع في قلبِ تجربةِ الجيلاني حين نتحدث عن خصوصية التجربة الشعرية عنده.
في إحدى قصائد ” الوردة تفتح سرتها ” أعني القصيدة المعنونة بـ ” في غنج هيئها” نلاحظُ أنَّ الشاعر تعمد تغييب الأنثى، مركزاً على إظهارِ براعته كشاعرٍ متمكنٍ يبتعدُ عن الخطابيةِ، ويتمردُ على الذاتيةِ، ويتعمد الاقتراب من الموضوعية، لكنه في رأيي لم بقصد بذلك قياس مدى تأثير هذه الأنثى / الملاك التي تسلمه للحزن والقلقِ، ولا قياس قدرته على رسمِ مشهدٍ لذاته وذاتِ محبوبته من خارج مدارهما المتوهج؛ بل كان يعيشُ حالةَ الاصطلامِ الكبيرِ الذي تفقد فيه المشاعر والحواس تمايزاتها، فكان غياب الانثى كمخاطبٍ مباشرٍ دليل تجاوزها مرحلة المخاطب الذي يستلزمُ وجود آخر بأي شكل من الأشكال، فأنت لا تعرف عن أي أنثى يتحدث؛ لكن تشعر بذلك فحسب:
لمورقةٍ في جراحِ المساءِ
تغني… وتجترحُ التوق
تقترح البهجة المشتهاة
الفضاء الذي كنتَ رتبته
الرحيل المعني… بفاتنةٍ شاخ شباكها
في متاه المدى
ألا تبدو سطوةُ حضورها واضحًة رغم قصديةِ الشاعرِ في تغييبها من خلال استعمال الأفعال المضارعة، إذ هي ” تغني، تجترح التوق، تقترح البهجة المشتهاة ” ولكن هذا التغييب المقصود سرعان ما يتلاشى، إذ ينتقلُ الشاعرُ إلى الحوارِ أو المونولوج الداخلي في المقطعِ الثاني، والذي نحس من خلاله عودة المرأة وحضورها وهيمنتها على عاطفة الشاعر إذ يقول:
لا تدعها تخبئ جمرة الحفاوة
كل حافة في مقام تجسدها سفر وامتحان
برازخ وقفتها مجاهدة لا تؤدي إلى الشهد
تقتاد عاشقها للمر من الخوف
لا الصمتُ يمنحنا هدوء الحواس
لا الصبرُ فاتحة المشتهى
أنت في غنج هيئتها قد سباك التولّه
وهي لا ترقب الله فيك.
و لو قمنا بإحصاءِ المفردات الصوفية التي استلهمها الشاعر الجيلاني في المقطع السابق (مقام، برازخ، مجاهدة، عاشق، الصمت، الصبر، التوله)، فمن المؤكد أنَّنا سنصلُ إلى نتيجةٍ؛ مفادها أن تتابعَ هذا الحشد من المفردات الصوفية، يؤكد دورها مجتمعةً في شحنِ القصيدة بعاطفةٍ مكثفةٍ تجاه الأنثى، وإنَّ المدرك لهذا التحول في بناءِ المقطعِ الثاني، والانتقالات المرسومة فيه بدقة عجيبة ومدهشة؛ من “الغياب إلى الحضور”، ومن “العشق الحسي إلى فضاءاتِ العشق الصوفي”، ستتضح له الرؤيا أكثر من ذي قبل بأن هذه الأنثى هي الخلاصُ الذي يطلبه الشاعرُ من واقعه، وبأنها الوحيدةُ القادرةُ على منحه أسباب الحياة، والإحساس بما فيها من جمال، وتفاؤل وفرح، لكنها أكثر من ذلك قادرة على منحه الشعر نفسه، وهنا لا بد من الإشارةِ إلى سمةٍ مهمةٍ في شعر الجيلاني تتأكد خاصة في هذا الديوان، فثمة ثلاث مهيمنات على التجربة لا تدري وأنت تقرأ الديوان أيها يحتل الأهمية الكبرى؟ ! ذات الشاعر أم الأنثى المعبودة، أم جوهر الشعر المنشود؟
ذاتُ الشاعرِ نلقاها في أولِ مقطعٍ من أول قصيدة في الديوان، قصيدة “مقامات شمس الشموس”:
أريد لهيبتي صيتًا
لصوتي أن يطمّ
وأن أكون أنا.
أيضاً رؤيته لمستقبله حاضراً بقوة في المشهد الأدبي ومكانته فيه، حين يقول في نفس القصيدة متقنعًا بالصوفي الشهير شمس الشموس أبي الغيث بن جميل:
أنتَ هنا
سَتبْزُغُ من رؤاكَ
شمسُ شموسِ هذا الكونِ
كلُّ مشارقِ الآياتِ
تُسْفِرُ
عن بهاءِ وضُوئكَ الأزَلي
كلُّ رياحِ هذا الدَّربِ رِيْحِكَ
واضحةٌ معاني الكلام في المقطع السابقِ، واضح فيها الطموح الكبير إلى الحضور القوي في تجربة شعرية ذات خصوصية وتميز، أما إذا قرأنا ديوان ” الوردة تفتح سرتها” في ضوء استهلال الشاعر ديوانه، وقد اتخذ من شمس الشموس قناعاً له، ثم في ضوء ما نعرفه من تأكيد الجيلاني على مركزيةِ شمس الشموس في التصوفِ اليمنيِّ، إلى جانبِ رمزيته الخاصة بالنسبةِ له، و بناءً على ما نعرفه عن سيرةِ شمس الشموس الذي انتقل من لا شيء في المجتمع إلى شيخِ شيوخ التصوف في اليمن بلا منازعٍ، فإنَّ حضورَ الذاتِ الطامحةِ إلى التحققِ يصيرُ ثيمةً أصيلةً في الديوان لا جدال فيها.
-جوهر الشعر نجده في المقطع الثاني من القصيدةِ نفسها، والتخلق فيها يرتبط مباشرًة بفعلِ الكينونةِ الذي يعبر عن قدراتٍ لا متناهية:
قالَ لزَفْرةِ:
كُونيِ
فكاد جَلالُهاَ ينْشَقُّ
وفي قصيدةِ شمس الشموس إشاراتٌ كثيرةٌ إلى مكابداتِ البحثِ عن الذات الشعريةِ الخاصة، وعما عاناه الشاعر كي تتكشفَ له ذاته، فيعرف سر الخلق، أو ينفذ
إلى جوهر الشعر، وإلى بصمته الخاصة فيه، من ذلك قوله:
لكَ سُكَّرُ المَعْنَى
وِلي مِلْحُ الكَلامِ
وَلجتُ مَسغَبةَ التَّجرُّد
لاحَ لي في شَرنَقَاتِ الليلِ
وجْهُ
فَجَاجَتِي
مُتَلعْثِماً
وأَناَ أَصوغُ لمُبهَم الأشياءِ
قَافيتِي
فَضاءُ شَقاوَتي يَزدادُ
تَطْرحُنِي الشُّجونُ
على شَوَاطِئها
أُطارِحُ بَحرِها
أُنشُودَة التَّبريحِ
نَجلِسُ في فِنَاءِ عذابنا
لُغةً مُتيَّمةً
تَصاعُد من مَباخِرِ
بَوْحِنَا
الأحْزَانَ
كُلُّ جُروحِنا مَفتُوحَةً
لا نَجمَةٌ تَأسُو
ولا صُبحٌ
نُؤَمِّلُ
أنْ يَجيءْ
وفي هذا تأكيدٌ واضحٌ على أن اكتشاف طينة الخلق الشعري، والوصول إلى سر “كن” لم يكن مجانيًا، وإنما جاءَ بعد مجاهداتٍ وعذاباتٍ لا حصرَ لها، وهنا نلاحظ اختلاف الجيلاني عن عديد من الشعراءِ الذين توسلوا اللغة الصوفية طريقاً للكتابةِ، فاستحضار الموروث الصوفي، واستحضار ألفاظه ومصطلحاته، وطرائق توظيفها في شعره يجيء سهلا، وينقاد طيعاً دون أي صعوبة تذكر.
-أما ذات الأنثى المعبودة المعشوقة، فتأتي ممتزجةً في القصيدةِ بذاتِ الشاعرِ وجوهر الشعرِ في آن معاً، نحو قوله:
يَا مُبِدعَ الوجدانِ
كيف جَعلتَنِي أَشتاقُ لِلعُذّالِ
يلحُون انتشَائي
كُلّمَا أرخَى الشّقاءُ
عليّ كَلْكلَهُ؟
وكيف جَعلتَنِي طَيراً
يُغرِّد بالثَّناءِ
وَقَدْ تَبعْثَرَ
عُشُّ حُبّي
في رِياحِ
العُسرِ؟
ضَعنِي أيها العَالي عَلى كَفِّيك
نَضِّرْ
غصنَ
قَافيتي
بَماءِ الشِّعرِ
بَوِئنِي.. هَواجسَ تَفتحُ لي
شَآبِيبَ الكلامِ
تَلمُّنِي مِن قَفْرِ
هذا
التِيهِ
صَارت بَيضة القلب المتُيَّمِ
في فَمِ الثعبانِ
غَاضَبنِي الطريقُ
وَمالَ عني السَّفر
مَجَّتنِي قَوافَلُ
كُنتُ أَحدو حَجَّها
لحِياضِك المَلأى
بِيَاقُوتِ
السَّعادةِ
وَالأمانْ
فلا فرق في هذا المقطع بينَ حضورِ الذاتِ، وحضور الشعر، وحضور المحبوب “ذات الأنثى” على الاطلاقِ، فقد استهله بهذا النداء “يا مبدع الوجدان” والوجدان حالٌ يستولي على المرءِ حتى لا يملك معه حاله ونفسه، يحدث ذلك في حال استيلاء حبِ الله عليه، ويقع في حالِ استيلاءِ وجد بمخلوق أو شغف بعمل يعمله. وكل هذه المعاني تتحققُ في النصِ، فهو يطلبُ الخلاصَ من وجعِ الذاتِ ومن وجعِ تعلقها بالمحبوبِ:
كيف جعلتني أشتاق للعذال
يلحون انتشائي كلما أرخى الشقاء عليّ كلكله
وكيف جعلتني طيراً يغرد بالثناء
وقد تبعثر عش حبي في رياح العسر
وهو يطلبُ التحققَ الشعري مقترنًا بتحققِ الذاتِ، ومقترناً بالخوفِ من ضياعِ الحب:
ضَعنِي أيها العَالي عَلى كَفِّيك
نَضِّرْ
غصنَ
قَافيتي
بَماءِ الشِّعرِ
بَوِئنِي.. هَواجسَ تَفتحُ لي
شَآبِيبَ الكلامِ
تَلمُّنِي مِن قَفْرِ
هذا
التِيهِ
صَارت بَيضة القلب المتُيَّمِ
في فَمِ الثعبانِ
بهذا النصِ سيحسمُ الشاعرُ مسألةَ التحقق الشعري، أو البحث عن الذات الخاصة والتأكيد على مصادرها، كذلك البحث عن المحبوب بوصفه مجرد نجمة بعيدة، أو غائبًا يلوح في شباك القلب المفتوح، ستتحولُ قصائدُ الديوان إلى تمردٍ على الوجدِ المجاني، وعلى مدارِ التمنيات البعيدةِ، سنجدُ أنفسنا أمامَ منازلاتٍ من نوعٍ آخر، وبالمناسبةِ فالمنازلاتُ في المعجم الصوفي هي “أن يريد هو النزول إليك، ويجعل في قلبك طلب النزول إليه، فتتحرك الهمة حركة روحانية لطيفة بين نزولين، نزول منك عليه قبل أن تبلغ المنزل، ونزول منه إليك قبل أن يبلغ المنزل. فوقوع هذا مع اختلاف الطبيعتين يسمى منازلة”، وبسبب تلاقحِ الطبيعةِ الشعريةِ للتعبيرِ عند الجيلاني بحالة الجنون بأنثى معشوقة كما يتجلى ذلك في جميع قصائد الديوان فإن المنازلة هنا تتسعُ وتنزاح لتعبرَ عن حالاتِ التضادِ وحالات التوافقِ بين العاشقِ أو حالاتِ الفصل والوصل بينهما على حد سواء؛ لكن ذلك كله سيحدثُ في ظلِ هيمنةٍ طاغيةٍ للأنثى، بما يجعلها مركزَ التجربةِ، والمفجر الأساسي لفيضها الهادر. نجد ذلك في قصيدة “يا ذا الوجد” حبا جارفاً والتياعاً بالغ العنت، يشتعلُ تبرماً وشكوى وأنيناً يشبه التمرد:
يَا ذَا الوجدِ
صَارَ الوقتُ
قبراً
ضَيِّقاً
من لَفَّني بِمَرارتِي
وأَثابَني جُوعاً
وأَوْحَشني؟
أليسَ هو الذي أمسيتُ مفتوناً
بأحرفِ اسمه؟
بجفُونهِ تَصْطادُ قَافِيتي؟
بِماءٍ سَالَ من كَفَّيه
شَفَّ كما تَشِفُّ عبارةُ
المشْتاقِ؟!
ونجدها في قصيدةِ “الوردة تفتح سرتها” وصولاً ومكاشفة واتحاداً، أو الالتحامَ جسدياً يعضدُ الالتحامَ الروحي، وهنا يظهر حذقُ الشاعرِ ويتحقق تمكنه من أدواته، حينَ تتحولُ لغةُ التصوفِ الروحية إلى لغةٍ تعبرُ عن ملذاتِ الجسدِ ورغائبه:
هَلْ
أُلقِي تَعبِي
وأَمدّ شُقوقَ عَذابَاتي
وأَنامُ
الآنْ؟
هَلْ
أترُكُ بابي مفتوحاً
لملاكٍ
يأتي
يقرأُ في أُذني فَاتحةَ الغيبْ؟
يَهمسُ لي أَني مَغسولٌ بضياءِ اللهْ!
-اغمضْ عَينيكَ
-افْتحْ
-عينيك
تَباركَ
ربُّ
الحُبِّ
هُنا اتَّكئي
شَعْشعتِ الكأسُ
بأنوارِ
فتَّقها الأنسُ
فَدورِي.. يا دُنيا
دُورِي
ألِفٌ
لامٌ
لامٌ.. ألِفُ
ونجدها في قصيدةِ “معراج النشوة” منازلةَ توصيفٍ لحالِ لذةٍ جسديةٍ لا تدرك لغتهما كنهه، أو تحيط بكثرة ما أفاض عليهما من عطاءاته:
لمْ يَكُنْ
نبأً كاذباً
واحْتَفَيْنَا بِمَوعِدَنَا
كُنْتُ
أَلْعَقُ
أَهْدَابَهَا
ثُمَّ يُغْشَى عَليْ!
-ما الّذيْ فْيكِ أَبْصَرْتُهُ
يَوْمَ أَرْسَلْتنِي
لسَماءِ الخُرافَةِ؟
قاَلَ لِي هُدْبُها:
كَانَ مَا تُبْصِرُ الآنْ!
مَدَّ لِي
كَأسُها
نَارَهُ
قُلْتُ:
يَا سَيِّدي
مَنْ أَنَا؟
قَالَ:
مَا تَشْربُ الآن!
زَلْزَلَتْنِي
المْعارِفُ
قُلتُ:
يَا سِّيديْ
إنَّ روْحاً تُرفَرْفُ
مَا بَيْنَنا
قَالَ:
لَكِنَّنا فِي المَدَارِ الأَخِيرْ
ثم نجدها في بقيةِ قصائدِ الديوان استقصاءات لتقلب الأحوال بهما وبينهما، فالأنثى المرتكزةُ في قلبِ التجربةِ تتجلى غيابًا موصوفًا تقوله قصيدة “في غنج هيئتها” القصيدة التي عرضنا لها سابقاً، والمنازلة في قصيدةِ “قالت” اعتراف من الأنثى بالحب، ودعوة للعاشق إلى ملذاتِ الجسدِ:
قُمْ نَتَمرّى
فِي زَغَبِ الطِّينْ
في ماءِ
في ماءِ الحَضْرَة
نَسْتَلْقِي
في نُورِ القُدْرَةِ
تُلْقِينا
مَا بَيْنَ الكافِ
وبَيْنَ النُّونْ
وهي في قصيدةِ “بعثرني في خلجات الريح”، تعبيرٌ عن لا مبالاة العاشق بما سيكون، ما دام المعشوق في قلبه:
وَقعَ العُصْفُورُ
ولم تَسْكُتْ أُغْنيةُ الماءْ
لُمْنِي يا سَيِّدَ قَلْبي كَيْفَ تَشَاءْ
بَعْثِرْنِي في خَلَجَاتِ الرِّيحْ
قُلْ.. إنِّي رَاودتُ الْهَاجِسَ
عن عَيْنيكْ
إنَّ وُضُوئي
كان رِيَاءً
بَينَ يَدَيكْ.
ومن قلبِ هذه المنازلاتِ يتفجر الشعر، مثلما تحققت بالمنازلاتِ تجربةُ العشقِ، وهي تعبر من فضاءِ الروحِ العالي إلى عسلِ الجسدِ ومباهجهِ، أو كما يقول الشاعرُ في قصيدةِ “مديح الوليمة الطيفية”:
تُوقِعُكَ مِنْ مدَاراتِ الأقمْارِ
على كَازيةٍ أَشْعَلتْها البُروقْ
فإنَّ الشعرَ كان يتحققُ من داخلِ المنازلاتِ نفسها، نجده على سبيلِ المثال لا الحصر في قصيدة “بعثرني في خلجات الريح في قوله:
إنَّ حروفي لا تشرب إلا من كفيك
ونجده في قصيدة ” الوردة تفتح سرتها” في قوله:
ثَمَّةَ شِرْيَانٌ مِن عَسلٍ
مَا بَينَ فُؤادِي
وَلِسَاني
كذلك في قوله من القصيدة نفسها:
الوَردَةُ تَفْتَحُ سُرَّتُها
عِطراً
وَمَنادِيلَ زُرقاً
وَبَهَاءً يَتَّكِئُ عَليهِ
الحُبُّ
إنَّ هيمنةَ الأنثى في ديوان “الوردة تفتح سرتها” لا يأتي اعتباطًا، فعلاوة على طبيعةِ العاشق الواضحة في شخص الشاعر، وما عرف عنه من شغف بالنساء، ومن ميلٍ جارفٍ للعيشِ في حالةِ حبٍ دائم، إلا أنَّ هيمنة الأنثى على تجربةِ الديوانِ تتجاوز ذلك كثيراً، إذ هي تتعلقُ بأنوثةِ الوجود، وأنوثةِ اللغةِ، وأنوثةِ التجربةِ الشعريةِ نفسها، وهذا يأتي من قلبِ مفهوم الصوفية للوجود، فنحن نجد محورية الأنوثةِ في التجربةِ الصوفيةِ حاضرًة بقوةٍ في تجاربهم الكبرى، فالأنثى عند صاحبِ الفتوحاتِ الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي تتخذ معه طابِعًا معرفيًّا بشكلٍ واضحٍ وصريح؛ وهو عبرها يخترق الأزواج المفاهيمية على المستوى الأنطولوجي والأنثروبولوجي والمعرفي واللغوي، فهي نقطةٌ محرقيةٌ لاستقطابِ التجلياتِ الإلهيةِ، كونها تمثلُ البعد المنفعل في تلقي الانوار الإلهية، ولا يكف خطاب ابن عربي عن الاحتفال بالأنوثة، حضورها الباذخ، وبهائها اللامع، جمالها المضيء، وعتمتها الواعدة، وسريتها الكاشفة.
وهو يفعلُ ذلك من داخل كينونتها المحيِّرة المعبرة عن ماهيته الأسرار كلها؛ لذلك يحضرُ مفهومُ الأنثى عنده بشكلِهِ الواسع والعميق إلى حدٍّ يجعل خطابه خطابَ أنوثةٍ في مجمله، على اعتبارِ أنها تمثلُ قوةَ العبور نحو الطاقةِ الفعالةِ للفكرِ وممكناته، بقدر ما هي قطب الوجود الذي يمثل صيرورة الخلق “الولادة”، وكل كتابة ولادة جديدة، والجيلاني يعرف هذا المفهوم ويخبره، ويعرف كيف يتمثله.
الجديد هو أن الجيلاني عكسَ اللعبةَ، فبعد أن كانت ليلى “الأنثى” رمزًا لشفافيةِ التصوفِ ومشغلا لروحانية معجمه اللغوي، صار التصوفُ رمزاً لطينية الأنثى ومشغلاً لجسدانية المعجم الشعري الواصف لملذاتها، وهو بالتأكيد أول من أقدم على الانزياح بالمفهوم على هذه الشاكلة، وقد كان فعله لافتاً لكل من تناولوا الديوان عند صدوره خريف عام 1998م –قبل 24 عاماً من لحظة هذه الكتابة-، وما أكثر من تناولوه وقتها. كتب الشاعر محمد حسين هيثم إن تجربة الديوان” تتوسل بالتجربة الصوفية طريقًا إلى التجربةِ الإنسانيةِ المفعمةِ بالحسية” أما الناقد عبد الله علوان فقد فسر تعمد الجيلاني تداخل الضمائر بكونها تنطلق من هذه الرغبة بالذات، أعني تحويل لغةِ التصوفِ من لغةٍ روحيةٍ إلى لغةٍ حسيةٍ جسدية، يقول “يتداخل ضمير الأنثى المخاطبة، بضمير المتكلم البارز “أنا” حتى لا نعرف الواله من المتولَّه به، ولا ندرك ذات الصوفي من ذات الرحمن”.
يضيف الناقد عبد الله علوان “قد يكون هذا من باب التوحد، توحد الذات بخالقها توحداً يصعب الفصل بينهما على طريق الحلوليين، لكن نحن هنا كما قلنا أمامَ شاعرٍ يحيلُ لغة الصوفي، إلى لغةِ التواصلِ اليومي، ولغة التعاشر بين الذكر والأنثى بصورة لا لبس فيها”
وذهب الشاعر والناقد محمد المنصور في دراسته لعتبات الديوان إلى أن عناوين القصائد فيه “أسماء تتبادل الدلالة فيها المسميات الحقيقة للأنثى، مع المدلول القاموسي للشمس، والوردة والنشوة. إنَّ العلاقةَ هنا في مقامِ الفيضِ تزهِّدنا في العالم الأرضي، وترتقي بنا في مدارجِ تفضي إلى المعراج والنشوة بحضرةِ امرأةٍ كان لها أن تتنفس كائنًا في القصيدةِ وتخضوضر وتتنامى”
إنَّ تمركزَ الأنثى في التجربةِ الشعريةِ كما يسفر عنه ديوان “الوردة تفتح سرتها” سيتبلورُ بشكلٍ أكبر في “كتاب الجنة”، إذ هو كتابٌ شعري، تستمد فيه الجنةُ نعيمها من كل الروافد المتعاضدة من القرآن والحديث، وكتب الزهد والترغيب والترهيب، وكتب التصوف، وكتب المقامات والرحلات والتراجم، وتراث الشبقِ الجنسي من ألفِ ليلةٍ وليلةٍ؛ إلى الجنس في الجنةِ، إضافة إلى منجزِ الحداثةِ المتنوع والمتعدد.
و سيبدو الصوتُ التراثي -الصوفي بالذات- وقد اعتمد على تقنيةِ من تقنياتِ قصيدةِ النثرِ وهي المقابلة، المقابلةُ القائمةُ على تصادمِ الأشياءِ والصور والمعاني التي تتدفق منها أنهار الشعر، ونجد أنفسنا أمامَ جنةٍ خلقها _باقتدارٍ _الشاعر الجيلاني بطاقاتِ حواسه اليقظة وتأملاته المبصرة، ومعارفه المتعددة فهي جنة المعنى، وجنة المشاهدة، وجنة الأساليب والتصاوير، جنة تتجاور فيها الأساليب المستحدثة، وتتعالق فيها النصوص، فلكل نصٍ حاضر نصوص غائبة، تحضر في غيابها، جنةٌ تعبر عن طاقة حية، وقدرة متجددة، ومن حظي بدخولها فإنه ينعم ولا ييأس، ويخلد و لا يموت، لا تبلى أفكاره، ولا يفنى معناه. فهي تجربة المشاهد، وتجريب الرحلة الطويلة والعميقة فينا ومن حولنا، مفاتيحها كلمة ابن عربي «أنت غيمة على شمسك»، وهو مفتاح الإفادة من كل معطيات التفجر الشعري، والخلق الفني واللغوي العربي عبر عصوره، وكذلك من معطيات القدرة على عدمِ الارتهانِ للسائدِ مهما كان شأوه. جنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وفيها المزيد مما لا يخطر على قلب بشر، والطرائق إليها.