معطف رمادي

معطف رمادي

محمود حمدون

اللوحة: الفنانة الأميركية ماري كاسات

مجنونة، أعلم هذا عنها، لكني أدركت أن جنونها هو سر الحياة، فبغير نزق وخروج على الإجماع ما اشتعلت جذوة الحياة، أيقنت كذلك أنها نصفي الآخر، أو الباقي منّي على قيد الحياة، فحين أغفو تنطلق هي تعربد في الكون، تقض مضجع النجوم، تبعث في نفس الشمس حيرة وغيظًا لا حد له، يأتي الشتاء إليّ يزحف بمعطفه الرمادي فأتدثر منه بثقيل ملابسي، بينما تتحرر هي مما يقيدها، فتتوحّد مع الطقس، حتى يُصاب الصقيع بالخجل.

أناديها كلما غمّت عليّ الأمور: أيتها المجنونة أين أنت؟! فيأتيني صوتها من أعماقي: تجدني عندما تخفّف من حمولتك الملقاة على كتفيك، فأسألها: أمن أمارة أهتدي بها إليك؟ فتبعث إليّ ببقايا عطرها، رائحة شعرها المبلل بقطرات المطر؛ فأصيح بها من جديد: لم يعد بي جهد أو طاقة على النزال، فرفقًا بي، رجاء أرسلي إليّ آية أخرى؛ فتجيبني ساخرة: جئتك من قبل وبين يديّ جنون وحكمة فاخترّ ما شئت.

فضاء أزرق 

تغيب ما شاء لها الغياب، غير أني أتابع حركاتها، سكناتها، صولاتها، أجدني في تلك البحة التي تميّز نبرة صوتها الدافئ، أهرب من سخف الحياة بقراءة أشعارها، ثم تظهر على استحياء، تطرق باب صفحتي برقتها المعهودة، وقفت على أطراف أصابعها، همست: أستاذي، بلغت من لدنّي عُذرًا، فهل تسمح لي!

قلت: لا يغيب عن البال إلاّ من غاب عن القلب، فمرحبًا بك في أي وقت.

كأنما تشير بيدها إليّ عبر فضاء أزرق، قالت: أنتظر منذ كثير حتى أنني قلت أنك مللتَ كثرة اقتحامي لخصوصيتك، أو..

قاطعتها: شاعرة مثلكِ لا يملّ المرء من الاستماع إليها، القُرب منها، ما بيننا يتجاوز الخجل بكثير.

فهدأت نفسها قليلًا، أرسلت إليّ قصيدة جديدة، قالت: أعرضها عليك، فاقرأها، ثم ردّها عليّ.

ثم عبثت أناملها على لوحة مفاتيحها، طال انتظاري، فخيّل أنها تكتب رسالة طويلة إليّ، لكنها لم تفعل.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.