على ضفاف البحيرة

على ضفاف البحيرة

د. حمدي سليمان

اللوحة: الفنان الفرنسي ادوارد ليون كورتيس

إطلالة ثقافية على مدينة الإسماعيلية وثلاثة من أبناءها النبهاء

نعتز بكون أجدادنا أول من جاؤوا إلى تلك المناطق، وأول من عمروها، وسكنوا فيها، وكان لهم شرف تكوينها، على الرغم من أنهم نزحوا إليها مجبرين تحت وطأة ضيق العيش، فكلما ضاقت الأرض على سكانها حضرت الجغرافيا بفضاءاتها المتنوعة لتفتح نوافذ رحبة للحياة، تلك النوافذ التي نقف مذهولين أمام اتساعها، تنتابنا الرهبة من فيض التنوع البيئي المنساب بحرص بعيدا عن العفوية، كانت مساحات غامضة عصية على الفهم والتفسير كبقية أرض مصر، إلى أن انفكت لغتها بالجهد والعرق المتواصل، لتتحول الفضاءات الموحشة القاحلة المهملة إلى مجتمعات مأهولة، يتدفّق إليها الناس. هكذا كانت البدايات الأولى للكثير من الأحياء والمدن بمنطقة القناة، التي كانت تسمى ذات يوم “جديدة” والأن أصبحت تكتظ بالبشر وتبحث عن متنفس جديد، بعدما أصبح أنفاس سكانها ثقيلة.  

***

عاش السكان الأوائل في تلك البقعة على ضفاف البحيرة ما يشبه السردية الكبرى، حيث كان عليهم أن يتعاملوا مع الطبيعة الموحشة، وأن يتنقلوا وسط رمل الصحراء في الجنوب والشرق، وسبخ المستنقعات في الشمال، يحتضنوا ماء البحرين والبحيرات المرة والتمساح، يا تٌرى كم اخذوا من الوقت كي يألفوا ذلك الواقع الجديد؟، وأن يدربوا انفسهم للتعايش مع طيور النورس والأسماك والحيوانات البرية، فقد كانت قلة في الجنوب تعمل بالصيد والتجارة، أما باقي المنطقة فتغوص في اليابسة والأحراش، ظل هذا الوضع إلى أن تم حفر قناة السويس، والربط بين البحرين، عبر تنفيذ أجرأ عملية جراحية في بطن الأرض مارسها الإنسان على مر التاريخ، لترتوي الأرض بماء المتوسط، الذى راح يتوضأ بماء البحيرة في قلب البرزخ الصحراوي، ومع حفر ترعة الإسماعيلية التي أعطت هذا الفضاء الموحش قبلة الحياة، دب النشاط واستقرت الجماعات المتعبة، ومع الوقت نشأت مدينة الإسماعيلية في وسط القناة، لتكون محطة مهمة بين البحيرات المرة والتمساح والمنزلة والبردويل، وتوافد إليها مصريو الدلتا والصعيد، وتماهوا معا في تنوع ثقافي فريد، يجمع البحاروة والصعايدة والنوبيين وأبناء الصحارى الشرقية والغربية، ليضيفوا بالجهد والعرق أسطورة جديدة لتاريخ هذا البلد المدهش، جاءوا من كل ربوع المحروسة بثقافاتهم المختلفة، وبقدر ما تمثل هذه المرحلة من تاريخ هؤلاء الغرباء منعطفًا حاسمًا في تبلور إمكان التوافق بين الظروف الموحشة والتعايش وقبول الأخر، والتعاون والتناغم مع الطبيعة البكر في ظل شح الامكانيات وتدنى مستوى الحياة، كان عليهم أن ينتجوا حياة إنسانية بديلة يهربون إليها كل مساء ،لتعينهم على حياة السخرة والشقي، وبالفعل استطاع ذلك الوافد الجديد، أن يصنع لنفسه منتج ثقافي مميز، استقاه من الفنون الشعبية المختلفة، التي جاء بها هؤلاء البسطاء من كل ربوع مصر، محملين بموروث فني عظيم، يتسم بالتنوع والثراء المدهش، موروث من الغناء المصري القديم المتوارث عبر الأجيال، والغناء السائد في ذلك الوقت، من فرق الصهبجية والموشحات والعوالم، وفنون السيرة الشعبية والقصص الشعبي، والمديح والموال، وألوان عديدة من الفنون القولية والحركية التي أنصهر معظمها في تشكيل فنون الضمة وأغاني السمسمية، تلك الفنون التي تم حفرها في الذاكرة الجمعية منذ حفر القناة، لتشكل موروث تاريخي ثقافي وحضاري، ينمو يوما بعد يوم حتى صار جزء لا يتجزأ من الهوية والشخصية الوطنية لأبناء الإسماعيلية ومجتمع القناة، كما تعبر عن العاطفة الإنسانية، تلك العاطفة العفوية، المملوءة بالحماس والغيرة النبيلة على تراب الوطن، والتصدي لكل ما يهدد حدوده وسلامته خاصة بعدما كتب على أهالي تلك المنطقة حماية بوابة مصر الشرقية من أطماع العدو الصهيوني. 

 كما تميز ذلك المجتمع الحديث منذ اللحظة الأولى بثراء مدنه، فالخبرات المختلفة التي حملها الوافدين من أبناء مصر وغيرهم من الأجانب، شكلت تنوعا وثراء في كافة المجالات، فقد كان معظم الوافدين من بيئات تحمل أخلاقيات وثقافات وأنماط حياتية مختلفة، تجلت مظاهرها على كافة جوانب الحياة، وتطور مفردها اليومي، وهو الأمر الذي بدا واضحا مع استقرار تلك المجتمعات، وتقارب طبيعة وظائف أبنائها، ونمط معيشتهم، وما نتج عن ذلك من ثقافة، جعلت تلك المدن تتشابه في الكثير من العادات والطقوس الاحتفالية والفنون المستحدثة، خاصة وأن معظم هذه الفنون قد تم إنتاج الكثير منها في فترات الحرب والتهجير والمقاومة، وهو ما يؤكد التواصل البديع بين تلك الفنون خاصة أغاني الضمة والسمسمية وعلاقتها بوجدان أهالي القناة، ويجعل من تلك الفنون وثائق حية، تبرهن على أصالة وتضحيات وبطولات هذه الجماعات، وتؤكد على رسوخ فنونها في وجدان وعقل الأجيال المختلفة، وهو ما سيطر على المزاج العام حتى وقت قريب.     

بحيرة التمساح

كانت بحيرة التمساح تغرد منفردة في تلك البقعة القاحلة، تنزلق في جوف الصحراء، ترسم عالما فريدا من الزرقة، يعانق الأصفر الطاغي القاسي، تحوم فوقها الطيور عاكسة فرحتها بملاقاة الماء بعد سفر طويل، فهي تصنع حياة على الرغم من كونها بحيرات مالحة. فالمياه تتدفق إليها من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر بحرية، لتحل محل المياه المفقودة نتيجة البخر وتمثل البحيرات حاجزا للقناة، مقللة من أثر تيارات المد والجزر، فهي واحدة من أهمّ البحيرات الأربع التي تمرّ من خلالها قناة السويس، وهي ليست القناة الأولى التي تخترق البحيرة، فقد مرت عبرها العديد من القنوات، منها القناة التي حُفِرت في عهد الملك سنوسيرت الثالث أيّام المملكة الوسطانية قبل حوالي 4000 عام، وقد كانت أوّل قناة تمرّ في البحيرة، وقد أعادوا حفرها مرّات عديدة، حيث أعيد حفرها وتوسيعها سنة 600 ق.م، على عهد الملك نيخاو الثاني، وكان آخر عملية حفر لها على أيام الخليفة العباسي المنصور. حتى جاء فرديناد ديليسبس وأخذ تصريحاً من الخديوي سعيد بحفر قناة السويس لتمرّ هي الأخرى بالبحيرة وتعيد إليها الحياة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s