د. حمدي سليمان
اللوحة: «قناة السويس» للفنان النمساوي ألبرت زيجلر
تاريخ قناة السويس هو الجزء الاكثر إثارة في حياة هذه المنطقة (مدينة الإسماعيلية وما حولها)، فالجغرافيا والتاريخ والبشر وكل شيء هنا في تلك المدينة المطلة على البحيرات وقناة السويس، يحدثك عن المئات بل الآلاف من التفاصيل المثيرة التي تظهر في كل شيء، بداية من تنوع ثقافة أبنائها ومرورا بروعة طبيعتها من حدائق وبحيرات ورمال متعددة الأشكال والأحجام والألوان، تظهر عليها بصمات الخلق ورحلة الإنسان في علاقته المعقدة مع الطبيعة، حيث ظلت محتفظة بهذه البصمات عبر الأزمنة والأحقاب البعيدة والقريبة، لتؤكد لنا عمق تاريخها، وتعرفنا بمن مروا بها من بشر عبر السنين وتركوا بصماتهم، فمنذ قامت السلطات المنبطحة أمام المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس صاحب تنفيذ مشروع حفر القناة، بانتزاع شباب مصر من كافة ربوعها، وسيقوا مجبرين على العمل في هذه المنطقة قهرا، لتنفيذ هذا المشروع الجبار الذى غير وجه العالم وحركة التجارة الدولية، كان هذا بأدوات بدائية وجهد بشرى خالص من أبناء مصر البسطاء، الذين صنعوا المعجزة، واضافوا تاريخا لتلك المناطق، كانت طوابير الفلاحين الطويلة تتسلق الحواف الوعرة، تقابلها صفوف تلفحها الشمس وتتصبب عرقا وألما ترتوى به الأرض، التي صارت تحس وتئن متأثرا بمأساة العابرين والمقيمين عليها، لتعكس حجم المعاناة التي يعيشونها. فروائح الرمال ممزوجة برائحة جروح البشر، تضامنا معهم، دالة على عمق معاناتهم في هذه البقعة التي كانت ومازالت شاهدة على هذا التاريخ، الذى بدأ باستعباد مئات الآلاف من الفلاحين البسطاء، ثم رسخه التقسيم العنصري للمدينة، الذى يفصل بين الأجانب في المنطقة الراقية، وأصحاب البلد في التجمعات الفقيرة، حيث تأويهم العشش والخيام والبيوت البسيطة، التي لا تصلح كأماكن آدمية للسكنة، ومع تعدد أشكالها إلا أنها مهما اختلفت، وتباينت، تتساوى في وضعها البائس، وفي عدم صلاحية العيش فيها. حقا كانت الأوضاع صعبة والحالة يرثى لها، فقد ضاقت الحياة على هؤلاء التعساء، وصارت آلة الفقد تحصد البشر، فكل شيء يتآمر على المصري المغلوب على أمره، يستعبده ويعتدي على حياته ويتحكم بمصيره. حتى ما يروى ظمأه كان جزء من شقاءه ومأساته، فقد كان عليه أن يقدم عمره ويفقد الكثير من رفقاءه من أجل شربة ماء، وهذا ما حدث مع حفر ترعة الإسماعيلية الحلوة، التي كانت أهم شريان بعث الحياة في تلك المنطقة، فقد ارتبط حفر الترعة ارتباطا وثيقا بمشروع حفر القناة نفسها، بل إن إدارة شركة القناة رأت أن يكون حفر هذه الترعة سابقا لحفر القناة، حتى لا تتعثر عمليات الحفر، كما حدث في السنوات الأولى لتنفيذ المشروع في النصف الشمالي بين بورسعيد وبحيرة التمساح، ومع تدفق المياه الحلوة بالترعة، أخذت الترعة تفيض على ما حولها وتجانس المخلوقات المختلفة، وبدء كل شيء يدب فيه الروح، بعد ما كانت مكانا طاردا تتعذر فيه الحياة، وهو ما ساعد بعد ذلك لإقامة مناطق جديدة بالمدينة، كمنطقة عرايشية العبيد، نسبة إلى سكانها من أصحاب البشرة السمراء من النوبيين والسودانيين، ومنطقة العرايشية التي خرج منها الكاتب المسرحي الكبير محمود دياب، والتي تميز سكانها بالبشره البيضاء، لكون جزء كبير منهم جاءوا إليها من العريش، وقد أضيف إليها بعد ذلك أبناء الوادي من المصريين لتصبح عرايشية مصر، ولتميزها عن عرايشية العبيد، التي سميت في فترة عرايشية السودان نظرا لوجود عدد كبير من السودانيين بها، وهي المنطقة التي أخرجت لنا أنبغ فنانين السمسمية وعازيفيها ومطربيها، كالفنان الساحر أحمد السواحلي ومرسي بركة وغيرهم الكثير. وبعد أنتهاء الحفر فتحت القناة للعالم، تلك القناة الساحرة، بساط الريح الذى ينقل الشرق إلى الغرب والعكس في أيام معدودة، الشريان الذى عجل بإنفتاح العالم قبل أكتشاف العولمة، وساهم في تطور الحياة في الغرب وتقدمها العلمي والصناعي والتكنولوجي، وإن كان ذلك على حساب خيرات الشرق الذي كان ومازال يعاني من عمليات النهب المنظم، فقد غافلت قناة السويس الناس والزمن، وغازلت التاريخ في دلال لتبقى بين دفتيه، تصنع الأحداث بسبب تمفصلها داخل فضاءات يتشابك فيها الشرق بموارده الخام ومدلولاته الثقافية والفلسفية والروحية، بالغرب بممارساته التكنولوجية والاقتصادية والسياسية المؤثرة.