الإسماعيلية.. باريس الصغرى

الإسماعيلية.. باريس الصغرى

د. حمدي سليمان

اللوحة: الفنان الأكراني دانييل فولكوف

يشير التاريخ كتابة وفوتوغرافيا إلى الإخراج المدهش لمدينة الإسماعيلية، فقد استغرق التخطيط لإنشاء هذه المدينة سنوات، لتخرج للعالم مدينة حديثة على الطراز الاوربي، وقد وضع لعملية البناء والتشييد اشتراطات وقوانين وفقا للأسس المعمارية التي كانت سائدة في المدن الاوربية الكبرى، واهمها باريس، وبالفعل كان يتم التعامل مع المدينة على أنها باريس الصغرى، ولذلك لو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا ان تذاكر السفر إلى القاهركلها كان يكتب على التذاكر “باريس الصغرى- القاهرة”، فقد حرص المهندسين الأجانب الذين خططوا لمباني المدينة وحي الإفرنج، على المزج في الطرز بين العمارة الغربية والعربية، حتى أنهم قاموا ببناء فيلة الخديوي إسماعيل على نفس الطراز الأوربي، وكانت بجوار فيلة ديليسبس بشارع محمد علي، حسب طلب ديلسبس لتكون أستراحة لاقامة الخديوي حينما يأتى إلى الإسماعيلية، وتم تخطيط الشوارع والميادين والحدائق، التي جلبت اشجارها من كل بقاع العالم، لتكون نموذجا، وقد كانت المدينة بالفعل نموذجا ابهر الملوك والأباطرة والأمراء وكل الوفود الأجنبية التي اتت لحفل الافتتاح الأسطوري، عبر خط السكة الحديد الذي أنشأ خصيصا لنقل الوفود والملكة أوجيني من القاهرة للإسماعيلية، وبعد الافتتاح بدأت المدينة تؤدي دورها كمركز وميناء للترانزيت ببحيرة التمساح، التي اتسمت باتساعها واحتوائها لعدد كبير من السفن، كما احتضنت البحيرة ايضا مبنى الإرشاد المخصص لمركز إدارة شركة القنال، ومراقبة حركة السفن العابرة للقناة على مدار الساعة، وهو المبنى الذي سيطر علية المهندس عبد الحميد يونس ورفاقه، فور إعلان الرئيس عبد الناصر قرار تأميم شركة قناة السويس في خطبته الشهيرة.

حدائق الملاحة

تلك التحفة البديعة المطلة على بحيرة التمساح، والتي كانت تسمى الحدائق الفرنسية، تعتبر من أجمل الحدائق الطبيعية، بما تضمه من أشجار نادرة، وتنسيق وتنوع، قل ما يوجد في حديقة أخرى، لوجود عدد كبير من أشجار الزينة المعمرة، التي يصل عمر بعضها إلى ما يزيد عن مائة وخمسين عاما، مثل أشجار الجازورين دائمة الخضرة، والنخيل الملوكي، كما تحفل حدائق الملاحة بأنواع الأشجار التي استقدمت من فرنسا، لتزيين الحديقة التي يتوسطها مبنى الإرشاد المطل على البحيرة بلونه الأبيض الزاهي، وتقود حدائق الملاحة إلى الحى الإفرنجي أحد الأحياء التاريخية في المدينة، بمبانيه الفاخرة من الفيلات، والشوارع العريضة المظللة بالأشجار المورقة، وقد بنى هذا الحى في بداية الأمر، كسكن للمرشدين الأجانب، الذين كانوا يتولون مهمة إرشاد السفن العابرة للقناة، أثناء سيطرة الشركة الفرنسية عليها. وهناك تراث معماري فريد في حي الإفرنج وشارع الأشجار، وفيلا ديليسبس، والمبنى التاريخي لهيئة قناة السويس، فالمنطقة كلها تنطق بتاريخ عريق، تاريخ على قدر ما يحمل من اشياء جميلة إلا أنه يفضح الماضي الاستعماري والتمييز الفج الذي مارسته الشركة الأجنبية والسلطات الحاكمة تجاه العمال المصريين، الذين ظلوا لسنوات عديدة غرباء في تلك المدينة الأوربية، يتحركون في خطوط منتظمة لا يخالفونها حتى لا يتعرضون للعقاب، يجمعهم العمل الشاق نهارا  تحت لهيب أشعة الشمس الحارقة، وفي الليل تحتضنهم منطقة حي العرب القاحلة، بأكشاكها الخشبية وخيامها المتهالكة الفقيرة، ذكريات مؤلمة عبر عنها أبناء المدينة من العمال في حينها بأغانيهم على السمسمية، حيث كانت تلك الطريقة هي أفضل وسيلة لمقاومة الآثار السلبية للظلم والتمييز، وبعد سنوات رحل الاستعمار وبقيت الذكريات بحلوها ومرها، بقيت المباني بالأحياء المتميزة برونقها وبهاءها، شاهدة على التاريخ المعماري الفريد، الذي تباهت به مدن القناة وميزها عن الكثير من المدن المصرية، وإن كانت هذه الأحياء مازالت تعيش في خصوصية، كمحمية طبيعية لشركة قناة السويس.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s