موسيقى النوارس

موسيقى النوارس

د. حمدي سليمان

اللوحة: الفنان الروسي قسطنطين كوروفين

كما هو حال البشر الذين يسعون في مناكب الأرض بحثا عن الرزق، تأتى من بعيد طيور النورس المهاجرة بحثا عن الدفء، على شواطيء المتوسط والقناة وبحيرة التمساح، تلك البحيرة التي يعرف سكانها طائر النورس جيدا، فهو طائر جميل و ذكي يتغير لونه حسب عمره، يعدو على الأرض بسرعة ويعوم ويسبح برشاقة، ويغوص في الماء كالسهم. يبني عشه بين الصخور في المواقع البحرية الموحشة.

ويعرف كيف يقتات، فمثلا يضرب برجليه الأرض فيوهم الديدان على أن المطر يهطل فتخرج ويلتهمها. وأيضا يقوم بكنس الشواطئ ليتغذى على البقايا والفضلات الكثيرة التي يجدها على هذه الشواطئ، وقد احتّل النّورس مكانة عند أدباء وشّعراء القناة، كون طبيعة حياته ترمز للترحال.

واتذكر هنا ما كان يٌحكى عن مشهد فزع وهرب طيور النورس من تلك المدينة -الحديقة- الهادئة أثناء حرب 1967، حيث كانت تهرب الطيور بسرعة جنونية من المدينة، فمعارك الليل والنهار لم تترك للطيور فرصة للحياة فوق الأشجار ولا على سطح الماء والأرض، ربما كانت أغرب هجرة جماعية لكل أنواع الطيور يمكن لإنسان أن يشاهدها .أنها تهرب شمالا وغربا وجنوبا في وقت واحد وبأعداد لا حصر لها. حيث تهرب بسرعة جنونية، خوفا وحزنا على تلك المدينة التي أجبر سكانها على الخروج منها، ولم يبقى لها سوى الصمت والمقاومة. 

وكما يعشق سكان البحيرة طيور النورس، يعشقون ايضا أنواع أسماك البوري “العائلة البورية” التي تعيش في بحيرة التمساح وقناة السويس، وأشهرها في موسم الشتاء سمك ” السهلية” التي قل تواجدها بسبب أساليب الصيد الجائر، الذي ساهم على مر العقود في تجريف الثروة السمكية وتراجع إنتاج البحيرة الذى انخفض إنتاجها بنسبة كبيرة عن ذي قبل، حيث تعانى البحيرة منذ سنوات من نسب تلوث عالية، إضافة لتأثر البحيرة بمصبات مياه الصرف الزراعي للأراضي الزراعية المتاخمة للبحيرة. وهو ما دفع الكثير من الصيادين للانتقال لأماكن أخرى بحثا عن الرزق عبر مصايد مختلفة أو إلى هجر مهنة الصيد، خاصة مع تشديد إجراءات تأمين المجرى الملاحي لقناة السويس، ووضع قوانين جديدة لتحديد إبحار القوارب للصيد، ومنع إصدار تصاريح جديدة للصيادين في البحيرة، ومصادرة القوارب التي تصطاد في غير الأوقات المحددة، ومع تقلص الأماكن المسموح فيها بالصيد، كمنطقة جزيرة الفرسان التي تم اختيارها كمقر ومنتجع دائم لمؤسسة الرئاسة، في عهد الرئيس السادات، الذى كان يلجأ إلى هذا المنتجع الآمن بعد انتفاضة الخبز 77، يستقبل فيه الملوك والرؤساء، خاصة السلطان قابوس سلطان دولة عمان، الذى كان يأتي على متن اليخت الخاص به ويجلس لأسابيع عديده، تغلق خلالها البحيرة في وجه الصيادين وتعطل الأرزاق للدواعي الأمنية!. 

كل ذك واكثر دفع الكثير من الصيادين وسكان البحيرة إلى البحث عن مهن أخرى، واساليب مختلفة لكسب الرزق، وكان من الطبيعي أن يؤثر ذلك على صناع القوارب، الذين تراجع عددهم بشكل كبير، وهو ما لا يتناسب مع تاريخ حركة الصيد بالمدينة، حيث يعد عمر المهنة في الإسماعيلية من عمر المدينة نفسها، التي نشأت مع حفر قناة السويس، كما بدأت ايضا معها صناعة القوارب التي استجلب لها أنواع مخصوصة من أخشاب جاءت من أشجار التوت، وتوارثتها عائلات بعزبة البهتيني والحلوس – وهى عائلات يرجع أصول الكثير منها إلى عزبة البرج بدمياط ومنطقة المنزلة -، واقتسم سكان العزبتين المطلتين علي بحيرة الصيادين المتصلة ببحيرة التمساح مهنتي الصيد وصناعة القوارب الخشبية التي يحافظون علي نقلها من جيل إلى آخر، لكن صنّاع القوارب اليوم بات عددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. حيث لم تعد مهنة صناعة قوارب الصيد الخشبية في مدينة الإسماعيلية، مهنة مزدهرة كما كانت، فقد أصبحت تعاني صعوبات من قلة العمل وارتفاع سعر الأخشاب وتقليص فترات الصيد في البحيرات، فقد كان من المألوف لسكان المدينة مشاهدة عشرات القوارب الخشبية التي تتراص علي شاطئ البحيرة انتظارا لأعمال الصيانة المختلفة، قبل موسم الصيد الذي يبدأ في منتصف شهر مايو. 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s