فواز خيّو
اللوحة: الفنان الفرنسي غوستاف دوريه
كانت أمي تذهب إلى الحصيد مع أبي، وتذهب إلى الكرم لتجمع الحشيش للبقرة وهي في الفترة الأخيرة من الحمل بي، وذات مرة وقعتْ عن الحمار فتسببّت في مشكلة لي صاغت مجرى حياتي.
حين ولدّتُ كانت قدمي اليمين ملتوية كنصف دائرة، وسافر والدي الى الكويت وبقيت أمي تتحمل كل شيء وخاصة أنا، كانت الرحلة إلى دمشق حيث مشفى المواساة حفلة تعذيب لي ولها، ومذ ننطلق من الكراج باتجاه المشفى أنهال على وجهها بالضرب، وأنتف شعرها طوال الطريق، مخافة الأطباء والجبس وأسلوبهم الخشن.. ولا أدري أيّ غباء جعل الأطباء يلفّون قدمي بالجبس، ولم يلفّوا قدمي فقط بل ساقي اليمنى كلها، وطالت مدة الجبس مما سبب لي ضمورا عضليا في الساق.
لم أستفد شيئا من كل ترددي على المشفى سوى عذاباتي وعذابات أمي، كنت أجرّ قدمي ورائي حتى الخامسة عشرة، وأجد صعوبة في إيجاد حذاء يلائم قدمي لألبسه.. كنت أشتهي أن ألعب وأركض مع الأطفال، وهذا ما سبب لي عقدة نقص وانكفاء، انعكست على طبيعتي في البيت فأصبحتُ شرسا، وتولدت شراسة مضادة من والدي الذي صار مصدر رعب وخوف لي، ممّا سبب لي حالة تبوّل في الفراش أثناء النوم استمرت حتى الصف الخامس، وهذا ما زاد من قمعه لي، معتبرا أن ذلك قلة رجولة، بدلا من البحث عن السبب، وكانت أمي تنظّف الفراش وتنشره للشمس وتُدخله الى البيت قبل مجيء والدي من العمل، حتى لا يراه ويضربني.
عدم الإدراك والفهم الخاطئ للأمور، والتربية القاسية تترك ندوبا في الروح، تظلّ تحفر لسنوات طويلة، وتزرع عنصر الخوف وعدم الأمان في النفس، إضافة لعقد النقص.. فلم يرني أحد ويتوقع أن أقف يوما وأمشي على قدمي كباقي الناس.. والأطباء زادوا في تعبي.
***
وحدي أواجه هزائمي المظفّرة، وانتصاراتي المُذلّة ككل الانتصارات العربية، أمارس العبث في الكتابة، لا شيء يخصّني، لا وجهي ولا صوتي، حتى القصائد والزوايا لا تخصّني، وكأني كتبتها في حالة غيبوبة، أو أمليتْ عليّ إملاء.
بعد أكثر من عقد من عمر المحنة السورية، أكتب سيرتي.. يا للعبث، أخشى على سيرتي وتاريخي من الضياع، وثمة وطن بكل تاريخه ينسرب من بين أصابعنا، لكن أليست الكتابة محاولة لتأخير الموت، إذا لم تكن وسيلة للحياة أو للبقاء على قيدها؟
المحنة صامدة والسوريون يندحرون على كل الجبهات، المحنة السورية تُوحّد العالم وتفرّق السوريين.. وحدي واقف أتفرّج عليّ، والريح تخلخل أوتاد الوقت، والطرقات تفرّ مذعورة إلى اللا جهة.. أتمسّك بالريح كي تمنعني من الغرقْ.. أيتها الريح لا تتركيني وحيدا بيني وبيني، أنا خائف منّي.
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو