فواز خيّو
اللوحة: الفنان البريطاني فرانك هول
كنتُ الطفل الثالث في أسرة من سبعة أطفال وأب وأم، الابنة الكبيرة أمال، ثم كنج وأنا، ثم أمل وسمر وبشير وربيع.. الوالد هايل, حين كان طفلا صغيرا طُلّقت أمه من أبيه وتولّت عمّته رعايته, وبينما كانت ذات صباح متوجهة به إلى قرية والدته لتزورها وهو على كتفها, طلع في طريقهم كلب فجأة فخافت, فهوى الطفل عن كتفها فمسكته من رجله فسببت خلعا في مفصل الفخذ, وهذا سبب له معاناة كبيرة, ورغم هذا امتلك مهنة حدادة الأبنية, وكان معلما ماهرا, سافر مرارا للعمل إلى الكويت وليبيا والسعودية, وساهم مساهمة كبيرة في إنشاء هنغارات الطائرات في مطار خلخلة عام 1970, وأمّن لنا بعمله وكفاحه دخلا حمانا من الحاجة، هو رجل محترم, ولم يشكُ أحد منه, وصاحب بيت, وحين توفي غصّ موقف العزاء الكبير بأهل القرية والناس الذين قدموا من قرى المنطقة، لكنه لم يزعج أحدا سواي.
مرة اشترى شاحنة كبيرة ومرة باص ميكرو , ولأنه لا يملك الخبرة في الآلات لم يوفق, فباع الميكرو واشترى بقرتين, فكانتا مصدر دخلنا, حيث كانت أمي ماكينة العمل التي تتولى رعايتهما, وتحويل الحليب إلى جبن ولبن وسمن وغيره.
***
عام 1967 دخلتُ المدرسة الإبتدائية في القرية, وكانت بداية الانتقال من عالم البيت والحارة الضيقة إلى أفق أوسع.. في الصف الأول كان لدينا معلم كردي من عامودا اسمه كامل دنكو, وكان لديه طفلة صغيرة وجميلة معنا في الصف اسمها شهرزاد.. في الصف الثاني درسّنا الأستاذ جميل بدر, وكان خالي فرحان الخطيب قد جاء من الجزيرة بعد أن أمضى سنتين كمعلم هناك, وتولى إدارة للمدرسة.
تساءلت وقتها: لماذا يذهب المعلم من السويداء إلى أقاصي الشمال ليعلّم, متحمّلا أعباء السفر والمصاريف والغربة وغيرها, ويأتي المعلم من أقصى الشمال إلى السويداء؟ رافقني هذا السؤال مدة طويلة ولم أجد جوابا مقنعا.. هل فعلا يهمّ الوزارة الامتزاج الثقافي والاجتماعي؟ وهل الامتزاج يقتضي كل هذه المتاعب للناس، مع أنه في الخدمة العسكرية يلتقي ويمتزج الجميع؟
كنت في المدرسة منزويا وحيدا , وبسبب الخوف المتراكم صارت لدي عقدة التأتأة إذا طلب مني المعلم قراءة الدرس, وكنت مرتعبا طوال الدرس أن يطلب مني هذا, ولا أستطيع أن ألعب مع الأطفال, وكنت أشعر بالنقص لأني لا أستطيع ان أركض مثلهم, والبعض ينظر إليّ بفوقية وسخرية, والبعض يعيّرني بأني أعرج! مؤسف أن عيبك هو أنك تعرج من رجلك في مجتمع يعرج من قناعاته وقيمه, ويعرج أناسه من رؤوسهم.. هذا الاغتراب جعلني عصبيّا وشرسا أحيانا.
***
كان عمري سنة حين سافر والدي إلى الكويت, حيث أمضى قرابة ست سنوات متواصلة؛ لأنه لم يوفق في البداية, وهذا رتب علينا وضعا معيشيا صعبا, تحمّلت والدتي أعباءه بكل رجولة, كانت تأخذ (حصديات) على النسبة في موسم الحصاد, وتسري فجرا كالرجال إلى السهول لتحصد القمح, وكانت تجمع من بيض الدجاج الذي تربّيه لتذهب إلى العاصمة وتشتري بعض لوازم البيت.
وأعمامي كمعظم الأعمام لم يكونوا سندا في غياب أخيهم. حتى أخوالي الذين كان وضعهم جيدا قياسا للمرحلة, كونهم موظفين, حيث كان الراتب وقتها قويا لدرجة الرفاه في الستينات, فكان خالي الأكبر فرحان مُعلّما وجادالله موظفا عدليا, ولاحقا دخل سلك القضاء وأصبح قاضيا كبيرا كمستشار محكمة النقض في دمشق وهي أعلى محكمة, وفايز سائق شاحنة.
ومع أن والدتي تحبهّم كثيرا ويحبّونها؛ فلم يكونوا أصحاب مبادرة مرة ليسألوها إن كانت محتاجة في غياب زوجها, وهي حتى في أقسى أيام حاجتها لم تسألهم أو تطلب منهم, ربما كي لا يكون في ذلك إحراج لوالدي.. ليرحمها الله, كم تحملت وكم كانت كبيرة.
كانت العلاقة بين أخوالي مع بعضهم مثلا في التعاضد, يتفانون من أجل بعضهم, لكنهم يهملون أخواتهم, ربما لأنهن متزوجات من أغراب, وهذا من ضمن الموروث الذكوري الغاشم.. أخوالي هؤلاء توفي أبوهم وهم صغار, و وتوّلت أمهم أي جدتي تربيتهم في جوّ من الفقر. لكنها كانت قوية وصارمة.
كانت رحومة, فعندما تراني أصرخ وأعذّب أمي تقول لها: (اضربيه كف خليه يفن ساعة).. كم كنت أكرهها في صغري, لكني احترمتها حين كبرتُ وعرفتْ كم قاستْ حتى أنشأت أولادها.. كانت ظريفة ومستقيمة لا تطيق الشخص السيء , فحين يُذكر شخص سيء أمامها تنتف ريشه وتاريخه على مدى نصف ساعة, ثم تقول ( إيه شو دخلنا ؟ يصطفلو ).
***
أم كنج العظيمة فضة الخطيب, و التي رغم ما عانته فقد كان لديها حس السخرية.. الماء وحده كان معضلة, حيث كانت تنقل جرار الماء من البئر الذي يبعد حوالي كيلو مترا عن الدار , لتملأ الخابية الكبيرة, الخابية الكبيرة هي للشرب والغسيل وغسيل الثياب.
حين بدأ والدي يرسل كمية معقولة من النقود بدأت ببناء دار من البيتون الدك على قطعة أرض مخصصة لوالدي, وفي ظل عدم وجود هاتف في تلك الفترة كم هو صعب على امرأة تأمين العمال والمعلمين يوميا, وطوال فترة البناء كانت يوميا تحضّر للعمال الفطور والغداء إضافة إلى فطورنا وغدائنا. تساءلت لاحقا: لماذا كل هذا التعب والتكاليف؟ هل هي كرم؟ أم خجل مع أنهم يشتغلون في قطعة أرض مستقلة وليس في الدار حتى نخجل منهم رغم الفقر. كم هو مرهق ومكلف حين تُلزمك القيم الإجتماعية بهذه الأعباء. ولاحقا حفرتْ خزانا كبيرا للماء هي وأختي أمال سعة 60 مترا مكعبا كي توفّر أجرة العمال , وأصبح هذا الخزان سندا مائيا لنا وللبقرات.
كانت أمي مؤمنة وليست محسوبة على المتديّنات, ولا أذكر مرة أن طبق الطعام أّزيح عن الأرض إلا وتشكر الله على نعمه رغم الفقر.. من المقولات التي كانت تًكررها: من يخاف من الله لا تخف منه. لا تخف من نوايا الناس عليك بل من نواياك على الناس, وحين يتعرّض شخص سيء لضرر مزعج أو حادثة سيئة كانت تقول: هذا من سوء أفعاله ونواياه، لاحقا وجدت أن هذه المقولات في صلب وجوهر علم الطاقة الحيوية.
طبعا أمي ليست عبقرية, وهذه المقولات ليست لها, وإنما ترسّختْ في الموروث بسبب تكرار الأحداث التي تؤكدها, والتي حوّلتها إلى قوانين, وأمي تردّدها لأنها مؤمنة بها, وحين يحدث أن ترى أحدهم تجبّر أو ظلم أو ارتكب تصرّفا قاسيا تقول: لا يوجد في قلبه دين. الدين عندها رحمة ومحبة وتسامح, وانتفاء الظلم والتعدي على الآخرين, وخشية الله من فعل ما يغضب الله وعبده. وهكذا هو جوهر الدين وهكذا أفهمه أنا, وليس مظاهر خارجية وتجارة ومزايدة على الآخرين.. ومن الأشياء التي علّمتنا إياها، أن نحترم النعمة ونحافظ عليها, وحتى الآن حين أكون ماشيا في الشارع وأرى كسرة خبز؛ أنحني لألتقطها وأضعها على زاوية الرصيف, كي لا يدوس عليها أحد.
كان لديها حدس كبير في معرفة الناس, ونحن بعفويتنا حين يبتسم أحد في وجوهنا وخاصة من أقاربنا؛ نظنه طيبا ويُحبّنا, وكم كانت تقول لنا : فلان وغد يا أمي, وفلان مثله لا يحبّون أحدا ولا يحبّون الخير للآخرين, وكنت أعتقد أن رأيها بسبب الحساسية الكبيرة بين عائلتنا وعائلة أخوالي, واحتجتُ سنين طويلة حتى اكتشفت أن آراءها كانت غاية الدقة.. كانت سندي الوحيد في البيت وكنتُ رهانها. كانت تقول لهم: غدا حين يكبر ستروه.
الوعي لا تصنعه المعلومات والقراءة بقدر ما تصنعه الروح المتوهجة والحدس.. الوعي بصيرة ورؤية أكثر من كونه بصرا.. في هذه الفترة اكتشفتُ طلائع النفاق في المجتمع, فعنما يكسر الكبير إناء أو كأسا, وكي لا يُحرج يقولون له: انكسر الشر, لكن حين الصغير يكسر كأسا او إناء يقولون له: (يكسر إيدك) فأتساءل: لماذا لا ينكسر الشر معنا نحن الصغار؟
حتى قبيل وفاتها وأنا على مشارف الستين كانت تعاملني كطفل, وتخاف عليّ خلافا لبقية أخوتي. فهي مقتنعة مثلي بأني طفل و لم أكبر, و تعرف أني متهوّر حين يتعلق الأمر بقناعاتي, وأني غالبا أضع بيضاتي في سلة واحدة, حتى حين لا يكون لديّ بيض ولا سلة.. أتصل فيها وهي على فراش الموت لأطمئن عليها , فأجدها هي التي تطمئن عليّ بسيل من الأسئلة, وربما السؤال الوحيد الذي لم تسأله هو: هل أذهب إلى الحمّام قبل النوم ؟ جزء كبير من طفولتك وعمرك يرحل برحيل الأم.. ربما بحسن دعائها قطعتُ كل حقول الألغام وكل تلك الأدغال ولم أمتْ بشكل نهائي حتى الآن.
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو