شرارة اليتيم

شرارة اليتيم

أيمن جبر

اللوحة: الفنان الفلسطيني أحمد الدنان

استيقظت القرية على حادث بسيط، بسيط جدا، حادث لا يستحق حتى أن يُذكر، والمثير للدهشة أنه لم يتبخر سريعا من ذاكرة الناس!
هذا ما حدث…
مجرد ورقة كراس معلقة بمسمار على قبر بأطراف القرية، بها كلمات مكتوبة بقلم جاف وبخط رديء، كلمات قليلة عن “أم الخلول”! ذكر اسمها بعد كنيتها، ثم أخذ يُعدد مساوئها من بُخل، وقبح، وشر.
ولسوء حظ “أم الخلول” انتبه للورقة عابرون بتلك المقبرة، ففازوا بحظهم من الضحك، ثم لم يُقصروا في نشرها كنادرة يتسلى بها الناس. 
كم كانت هذه الورقة مباركة! أصبحت تلك السيدة حديث القرية، لم يعد أحد يذكرها باسمها الحقيقي، فقد أصبحت “أم الخلول”! وبعد بحث يسير، تبين أن تلك الورقة كتبها الصبي – ابن زوجها – الذي كان يعاني من قسوتها واضطهادها، وتحت شعوره بالقهر قام بتلك الفعلة البسيطة، لم يكن يعلم أنها سوف تؤثر هذا التأثير، فهي مجرد ورقة تنفث ما يختزنه في نفسه البريئة من كبت وقهر، فعلقها على قبر في أطراف القرية بعيدا عن منزل أبيه، علقها على قبر “أمه”، ربما تقرأها روح أمه أو الملائكة، يعاتب فيها أمه أنها رحلت ورحل معها الحنان وطِيب الحياة، وظن الولد أن لا أمل في أن يلحظ أحد الورقة.
لم يكن يعلم أن أهل القرية يملكون من الفراغ وسوء النية ما يجعلهم يلتقطون أي مادة للتشهير تلوكها ألسنتهم، ورغم أن الفاعل اعترف بفعلته إلا أن “أم الخلول” لم تستطع إلا أن تُحسن معاملته، فقد أصابها في مقتل! ولا أمل لها في أن تخلع عنها هذا اللقب الذي ألصق بها، لكن على الأقل لا تريد المزيد، فهذا الولد لا تعلم ردود أفعاله، ربما فعل ما هو أسوأ.

كان المتوقع بعد تلك الحادثة أن تنتهي “الحدوتة” وتعود القرية كما كانت إلى سكونها، فما حدث هو سذاجة محظوظة انفلتت من صبي يعاني قسوة زوجة أبيه…لكن كما في الأساطير، السد العظيم عندما غادرته صخرة صغيرة تهدم. 

لقد كان لتلك الحادثة أثر أعظم من صخرة السد! كيف الحال عندما يعود جنود من الجبهة حيث الصحراء والخشونة والتقشف، ثم يرون أمام أعينهم الخضرة والماء والوجه الحسن؟ هل سيجد الشيطان أي صعوبة في أن يلعب في رؤوسهم ويزين لهم؟…هذا ما فعله الشيطان برؤوس الذين يعانون كبتا مثل الصبي!
فما إن مرت شهور كاد الناس فيها أن ينسوا ما حدث؛ حتى ظهرت ورقة معلقة أخرى تتناول شخصا بالقدح، وتفشي من أسراره وقبائحه ما لم يكن يعرفه الناس، وتضع له “كُنية” يُعير بها. هنا هاجت القرية كلها، فالأمر أصبح مشروعا لظاهرة، ولو لم تطفأ الشرارة اليوم؛ ستكون نارا مستعرة يصعب السيطرة عليها. ورغم ثورتهم وتبرمهم، إلا أنهم تلقوا الكنية التي كتبت بروح رياضية فنشروها في كل مكان، فكيف تفلت من أيديهم فرصة للتنكيت والشماتة والاستظراف! وأصبح لتلك الورقة المكتوبة سلطة منح الألقاب لمن يقع تحت رحمتها، فيتردد اللقب بين الجميع حتى يكادوا أن ينسوا الاسم الأصلي للشخص المستهدف.
وفي ذروة البحث المحموم والتحقيق للوصول لكاتب الورقة، إذ بورقة أخرى تصدر في شخص جديد. وسقط في أيدي أهل القرية، فتلك دوامة لن تتوقف! ومن يقومون بهذه الأفعال أفراد وليسوا جماعة منظمة، فكل فرد له همه الشخصي وثأره الخاص، حتى لو عُرف من هو فسيظل الآخرون مجهولين؛ ويتجرأ الجميع. أصبح الناس يطوفون في القرية بحثا عن أي ورقة معلقة، فملل القرية تبدل إلى إثارة صاخبة وهرج منفلت فلا يمر شهر دون أن يبدأ مسلسل ورقة جديدة وضحية أخرى… والكل يبحث عن الجاني، والكل يتلقف الاسم الجديد بخبث نفس وينشره..
سقط بعض الجناة في أيدي الناس، كان لكل منهم قصة ومعاناة شخصية، ومع ذلك فمن يُكتشف يتعرض لعقاب شديد وتأديب أليم، وبعدها تبدأ رحلة البحث عن الجناة الآخرين…ودوخيني يا لمونة.
وكما يقول المثل “يا حضرة العمدة إبنك حميدة حدفني بالسفندية” خاف العمدة على نفسه، فمن مثله بيته كله من زجاج، وأخذ يفكر ويفكر، ثم لم يجد حلا سوى الاستعانة بأصدقائه الأبالسة.
انتهوا إلى شاب تم رفضه من فتاة ويشعر بجرح في كرامته، فاستعان العمدة بزبانيته لكي يُسولوا له أذيتها بالتشهير بها، فقام الشاب بنشر ورقة تقدح في سمعتها… هنا كان الأمر شديدا على كل القرية، فقد وصلت اللعبة إلى ما يمس الشرف والسمعة، وبعد أن تأكد العمدة من الأثر الكامل لتلك الورقة في أهل القرية، أمر زبانيته بتسهيل اكتشاف الشاب الذي عوقب بقسوة. 

ومنذ ذلك اليوم تبدلت نظرة الناس لتلك الطريقة، والبركة في العمدة صاحب نظرية “القلة المندسة والطرف الثالث”، وكما كانت ورقة الصبي هي الشرارة التي أشعلت تلك الحرب الإعلامية بالقرية، كان لحادثة التشهير التي تزعمها العمدة، تأثيرا كبيرا في زهد أهل القرية في هذه اللعبة، فتوقف النشاط تدريجيا دون جهد حتى تلاشى وأصبح نسيا منسيا.. ولكن!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s