قراءة في لوحة «همسات» للفنان التشكيلي يوسف كامل

قراءة في لوحة «همسات» للفنان التشكيلي يوسف كامل

ياسر جاد

لوحة «همسات» زيت على توال – مقاس (57X98) سم، إنتاج عام 1950، مقتنيات متحف الفن المصري الحديث في القاهرة

«همسات».. بتلك التسمية اشتهر عمل اليوم للراحل الكبير/ يوسف كامل. وكان الراحل اﻷستاذ أحمد سليم يطلق عليها تسمية (حكاوي العصاري). ذلك العمل الذي يعد واحدا من روافد نهر إبداع الفنان يوسف كامل. هذا النهر الهادر الذي جرف لنا معه الكثير من صور الحياة المصرية في النصف اﻷول من القرن العشرين. ليصب في بحر تراث الفن المصري الحديث. 

وفقيه التصوير الزيتي يوسف كامل واحدا من أساطين الفن المصري الحديث. ومن أوائل من ارتادوا مدرسة الفنون الجميلة في دفعتها اﻷولى والتي أسسها اﻷمير (يوسف كمال) عام 1908 (كلية الفنون الجميلة حاليا). بل يأتي في موقع متميز في صف الرواد اﻷول والذي ضم هؤلاء المبدعين الحقيقين. وتزامل مع أقرانه العظام كمحمود مختار ومحمد حسن وأنطوان حجار وراغب عياد شريكه في الحلم الأكاديمي للدراسة في أوروبا. والذي ضرب بالشراكة مع يوسف كامل نموذجا للطموح والأخلاق والتضحية. فقد قام كل منهما بتوفير نفقات اﻹقامة ودراسة الفن في إيطاليا للأخر لمدة عام من خلال التدريس نيابة عنه في القاهرة وإرسال نفقات اﻹقامة للآخر. وقد تكون تلك الواقعة التي أثيرت في البرلمان المصري آنذاك سببا رئيسيا في أن تتكفل الحكومة بتحمل نفقات الدارسين المصريين في أوروبا. ومكافأة لكلاهما تكفلت الحكومة بمنحهم فرصة استكمال الدراسة في إيطاليا على نفقتها. 

وارتاد يوسف كامل المدرسة اﻷوروبية في الفن التأثيري من خلال البوابة اﻹيطالية. سواء قبل السفر للدراسة من خلال تتلمذه على يد اﻹيطالي (باولو فورشيلا). والذي أشرف على دراسته في مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة. أو من خلال أستاذه في روما الفنان الإيطالي الشهير (إمبرتو كورمالدى). حتى تخرجه من الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بروما. وقد ترك لنا يوسف كامل كماً كبيرا ومتنوعا من منتجه ذو التقنية اﻷوربية. إلا أنه استطاع بذكاء حسه أن يمصر أسلوبه. وأن يكسبه تميزا لا تغفله عين الفاحص.

ولوحة (همسات) واحدة من النماذج التي تعد بمثابة (مازورة) قياس لأسلوب يوسف كامل. والذي يتميز بتلك الدرجة من الاحترام لذاته ولمتلقيه ولموضوع التناول. واللوحة تأتى بشكل كلاسيكي في الخامة والتقنية وتعد تطبيقا حاملا لنضج الموهبة وفتوة اﻹبداع. ولكنها ممزوجة بأسلوب يوسف كامل المميز والساحر. والذي يمنح المتلقي التجوال داخل مشهد العمل. وأن يقطتع منه بصريا جزءا بعينه دون أن يؤثر ذلك على متعته الحاصلة من تناول كامل المشهد بصريا. كما يمنحه تجوالا هادئا وممتعا داخل عادات وتقاليد ربما لم يعاصرها. كما تفتح بابا لمحبي ومصممي (السينوغرافيا) للولوج إلى تفاصيل المشاهد التي ربما يغفل عنها الرواة والمؤرخين. فمشاهده بحق تعد مرجعا لهؤلاء الباحثين عن حقيقة المشهد وأمانته وتفاصيله في تلك الحقب التي سجل فيها أعماله. 

والعمل واحدا من عشرات الأعمال بل مئات اﻷعمال التي عكس من خلالها الساحر يوسف كامل تلك المشاهد التي مثلت العديد من الصور الحياتية لمجتمع الريف المصري في النصف الأول من القرن العشرين. وقد أتاح له وجود مرسمه في منطقة (المطرية) من ضواحي القاهرة آنذاك. والتي كانت تتسم بإطلالتها على محيط يعد نموذجا لذلك النوع من المشاهد الريفية.. واللوحة تمثل مشهدا اعتياديا لتلك الساحة التي تقع أمام العديد من بيوت الريف المصري. وقد قدم يوسف كامل نموذجا رائعا لكيفية إيجاد حلول مساحاته وتوظيف مفرداته. بل وتوزيع أدوار شخوصه في المشهد من حيث أهميتهم. فأوجد اﻷبطال الرئيسيين ومثلهم في تلك المرأتان الجالستان تتجاذبان أطراف الحديث أثناء قيام أحداهما بعمل روتيني أرجح أن يكون تلك العملية الروتينية التي تقوم بها غالبية الفلاحات من إطعام جبري (تزغيط) لطيور البط بحبوب الفول ﻹكساب لحمها اللون اﻷحمر ولتقليل نسبة الدهون في أنسجتها تمهيدا لذبحها. في حين جلست اﻷخرى مسترخية تتبادل معها حديثا كتلك اﻷحاديث التي تستهوي النساء في ذلك المجتمع، تلك الأحاديث التي تعد بمثابة حالات الرفاهية لنساء الريف. والتي تسر من خلالها كل واحدة منهن للأخرى ما يجول في خاطرها من أمنيات. وما تحمله من هموم. وما تواجهه من مشكلات. في حين نجد طفلة تحاول إمساك أحد طيور البط لتأخذ دورها فيما تقوم به إحدى الفلاحتان من عملية التغذية الجبرية. وقد وقفت إحدى الصبايا بجانبهم في وضعية هي أقرب للتعلم بالملاحظة وتكسوها حالة من الفضول.. فلم نشعر بلحظة من الملل أثناء تجوالنا داخل المشهد الذي تناوله يوسف كامل، ولم نجده يذهب إلى تلك الحلول التي تؤدى إلى إيجاد فراغات ومساحات لون يهرب بإيجادها العديدين.

وفى أقصى يمين اللوحة نجد سيدة أخرى تمارس نفس تلك العملية الخاصة بالتغذية الجبرية لطيور البط من خلال حبوب الفول (التزغيط). وقد جاءت حلول المشهد في مجملها ذات واقعية. وكثيرا ما سجلتها ذاكرة العديد منا ممن تعرضوا لمشاهدتها على أرض الواقع. وقد جاءت تلك الشجرة الشاغلة لتلك المساحة في يسار اللوحة كعنصر نباتي يعكس مدى تكامل عناصر تلك البيئة الريفية في سينوغرافيا / يوسف كامل. وقد حملت اللوحة تلك الدرجة من الرقة والسكينة التي عهدها المتلقي في أعماله. ولا أدل على ذلك من تلك العذوبة التي تمثلت في الحلول التي تناول من خلالها رسم الشجرة. وما لأبعادها من رقة. وما لنهايات اﻷغصان من عذوبة. كما جاءت حلول تلك القطعة الشفافة الكاسية لرأس المرأة ذات الجلباب الريفي اﻷسود (الطرحة) غاية في الحرفية والمهارة. لقد منحت تلك المهارة التي صاغ بها يوسف كامل حلول الملابس ﻷشخاص العمل في مجمله ذلك الثراء. وجاء تباين درجات اللون لديه نموذجا للتدريس. وكيفية تعامله مع عنصر اﻹضاءة في العمل بشكل عام، وهو من سمات أعماله التي تميز أسلوبه اﻷوربي الراقي والذي قام بتمصيره بمهارة فائقة. 

وقد جاءت ضربات فرشاته الرقيقة والبسيطة والموظفة والتي صبغت العمل بتلك الدسامة اللونية دون أن تخل بتلك الحالة الهادئة والمحملة بسكينة وراحة بال تميز بها ذلك المجتمع الريفي البسيط.. 

ولا أستطيع أن أغفل تلك الحركة التي بثها يوسف كامل في العمل بشكل عام. والتي أكسبت اللوحة تلك الحالة من الحركة. وبثت نوعا من التفاعل الرابط لعناصر العمل بشكل عام. فنجد تلك الفتاة الواقفة والتي تجسد حالة من التركيز المشوب بالفضول، والتي يتميز بها الصغار في محاولاتهم للفهم والتعلم من خلال المشاهدة. تلك الوقفة الثابتة التي يقطعها من حين لآخر هذا الشهيق العميق. وتلك الصبية الجالسة في قرفصاء والتي تحاول السيطرة على طائر بط آخر ليأخذ دوره في عملية اﻹطعام الجبري. أما المرأة ذات الرداء اﻷسود فقد نجح في إظهارها ممارسة لنوعان من الفعل في آن واحد. الأول: وهو تنفيذ عملية اﻹطعام الجبري لطيور البط. والثانية تبادل حديث النساء الهامس مع تلك التي ترتدى الثوب اﻷحمر والتي أجبرنا يوسف كامل على اعتبارها البطل الرئيسي للعمل. رغم ما كانت عليه من استرخاء وهدوء والتفاتة لا نستطيع معها مشاهدة تعابير وجهها. إلا أنه فرض علينا استنتاج أهمية مركزها في العمل وذلك من خلال تعامله معها بشكل مزدوج سواء على مستوى اللون وتباين درجاته. أو على مستوى التشريح وعذوبة تناوله. وجاءت المرأة في أقصى اليمين من اللوحة ممارسة لنفس العمل من إطعام الطيور. أتت في تلك الحالة من العزلة والانطواء. اللذان يدلان على تراتبيتها المتأخرة في الهرم الطبقي للعمل بشكل عام. وأتت خلفية العمل المنقسمة ما بين منطقتي ظل ونور غاية في التوفيق، وتحمل دلالات التوقيت.

وقد تميزت مفردات يوسف كامل وعناصره بميزة ساحرة. فيستطيع المتلقي أن يتعامل بصريا مع كل عنصر على حده. ويجد في تناوله عملا منفصلا بذاته يمنح متعة بصرية منفصلة. إلا أن المزج يفتح لنا تلك النافذة المطلة على عوالم دراما المشهد. فنجد تكامل العناصر وتضافرها في عذوبة ورقة تأخذان العمل إلى تلك التأثيرية المستساغة من عموم المتلقين.

إن لوحة «همسات» والذي نحن بصددها واحدة من تلك النماذج التي تثبت ما لهؤلاء الرواد من قيمة ومنزلة وعلو قدر؛ لا عن منصب تولوه، ولا عن درجة علم حصلوها، ولكن عن نفس صافية وأخلاق ناضحة بنبل وتضحية، وإبداع عز وجوده وندر.

تحية لذلك الفنان الرائع الذي أثرى تراث الفن المصري الحديث بتلك الدرر النفيسة. 

تحية إلى روح الساحر الغائب الحاضر الفنان يوسف كامل.


يوسف كامل (1891 – 1973) رسام وفنان تشكيلي مصري من الرعيل الأول، يعتبر رائد الأسلوب التأثيري المصري. درس الفن في مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة، وأكمل دراسته في روما. عمل أستاذًا لفن التصوير الزيتي بمدرسة الفنون الجميلة العليا عام 1929، ثم رئيسًا لقسم التصوير، ثم مديرًا لمتحف الفن الحديث بالقاهرة عامي 1948 و1949، ثم صار عميدًا للكلية الملكية للفنون الجميلة (كلية الفنون الجميلة) بين عامي 1950 و1953. نال جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1960.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s