فواز خيّو
اللوحة: الفنان السوري عصام الشاطر
سورية الأبجدية الأولى في التاريخ (أوغاريت)، سورية بلد المحراث الأول وأقدم حبّة قمح تُزرع في التاريخ، سورية أول دعوة في التاريخ لفصل الدين عن الدولة، مرسوم سرجون الأكادي العظيم (تُقوّض سلطة الكهنة، وتُفعّل المحاكم المدنية).
سورية أقدم دعوة ونداء في الكون للحب والسلام، نداء الإله بعل: إرم سيفك واحمل محراثك واتبعني، لنزرع السلام في كبد الأرض، سورية.
سورية الحماصنة الرائعين المشهورين بظرافتهم، وبدل أن تحكمهم روما فقد حكموها، وقدموا لروما عدة أباطرة وعدة باباوات، من أسرة جوليا دمنة الحمصية وغيرها، وفيليب العربي ابن مدينة شهبا في السويداء.
ما أروع الحماصنة، مرة اشتركوا مع الحمويين أهل حماة على مقبرة، ولاحظوا أن الكثير من أهل حماه يموتون ويدفنون في المقبرة، بينما قلة من الحماصنة يموتون، فاحتجّ أحد الحماصنة غاضبا وقال: إذا استمر الوضع هكذا سيملأ الحمويون المقبرة ونحن واقفون نتفرج.
ومرة خبيرة تقدم في التلفزيون برنامجا للنساء عن إزالة الشعر الزائد بالليزر، فاتصل أحدهم وسألها: كم التكلفة؟
قالت له: حسب المنطقة.
قال لها: أنا من حمص.
سورية المهندس أبولودور الذي اصطحبوه إلى روما وصمّم وأنشأ معظم تحف روما المعمارية.
معظم الآثار الرومانية هي سوريّة التصميم، لهذا المهندس الدمشقي العظيم.
سورية التي قال عنها مدير متحف اللوفر الفرنسي الأسبق: على كل مواطن متحضّر أن يعترف بأن له وطنين، الوطن الذي يعيش فيه وسورية.
سورية الضاربة في أدغال التاريخ 5000 سنة قبل الميلاد، سومر وأكاد وعمريت وإيبلا وأفاميا، ولاحقا تدمر وزنوبيا.
سورية.. كم عاقك أبناؤك قبل الغرباء.
***
كنتُ في السابعة حين رأيت والدي أول مرة.
وصلتنا برقية من مخفر قرية الصورة من والدي، تفيد بأنه وصل إلى دمشق، ونزل في فندق وسط العاصمة.
كنت أعرفه في الصورة فقط ولم أستطع تخيله. كانت أول مرة أذهب فيها إلى دمشق، وأول مرة أرى ضجيج المدينة وزحمتها. كانت السيارات قليلة والكثير من الشاحنات الصغيرة ذات الثلاثة دواليب، أي جوهرها محرّك دراجة نارية. وكانت المرة الأولى التي أرى فيها بردى.
الشام، دمشق عاصمة الياسمين وعميدة الأحلام، مدينة الأسرار الغامضة التي لم تبح لأحد فيها، أقدم عاصمة في التاريخ لا تزال مأهولة منذ 600 سنة قبل الميلاد. دمشق من المدن التي تسكنك قبل أن تسكنها، كم توالت عليها الغزوات وكم استبيحت، لكنها كالجسد الآدمي، تنظّف نفسها وتطرد الجسم الغريب، وتستعيد وهجها، تستند على كتف قاسيون، الذي لا زال واقفا منذ الأزل على قدمين من فولاذ، وروح من عطر ياسمينها، يحرسها ويقاسمها شموخها وحزنها وفرحها.
عندما جاء الزمانْ،
هبّت الغوطة لاستقبالهِ،
أسكرته الشام فاختار المكانْ.
فكم كان يقصدك الضوء كي يستضيءْ
ويسكنك الحور كي يستفيءْ
ويرتحل الزهر عبر المواسم،
حتى إذا بلغ الغوطتين، الشآم،
استراح على صدرها الأقحوانْ،
لتخرج من رئة العطر تنهيدتانْ.
….
بردى
نهر تهادى من أعالي القلب مخترقا ضلوعي،
يمشي الهوينا ضاحكا، يروي عروق الغوطتين.
والآن قد شاخت ملامحه، مدامعه، لترفده دموعي.
كم غيّبتني بردى
فهل ما زلت منتظرا رجوعي؟
كم يابس مجراك أو مثواك كم
فلكم وددتُ لو التقينا عند منعطف القصيده.
شاخت بنا الأحلام، وانكسرت بنا الأقلام تعبى
عند منتصف القصيده.
لهفي على وطن مصيدةْ.
فأنا وأنت وقاسيونْ،
سنلتقي في حضرة الشام الحزينة كي نقرّر ما نكونْ.
نحن الرباعيّ المُقدسْ
بالحبّ نرسمُ فجرنا،
لا بالمُسدّسْ.
مدينة السويداء الطيبة الفقيرة.. الغنية بموروثها وقيمها
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو