فواز خيّو
اللوحة: الفنان الروسي إيفان جوروخوف
في الفندق التقينا والدي بوجهه الأشقر الطافح وشاربيه الغليظين، وتناولنا وجبة من اللحم، حيث كان تناول اللحم بالنسبة إلينا يكاد يكون محصورا في الأعياد بسبب الفقر، وفي الأعراس.
في ذلك اللقاء قدّم لي والدي قلم الباركر ذا الحبر الناشف، لونه أحمر، كم أحببته.
هل كانت صدفة أو إشارة أن أول هدية أتلقّاها في حياتي هي القلم؟ بعد سنين طويلة قلت: لا أدري من منّا حمل الآخر، أنا أم القلم. كلانا حمل الآخر وكلانا كسر الآخر حينا، وكان عكازه حينا آخر.
اكتشفتُ أن والدي قد جلب معه دزينة من أقلام الباركر بشتى الألوان، وكنت أحيانا أدّعي أن قلمي قد نفذ حبره أو انكسر ووأنقّ على والدي وأبكي ليعطيني قلما جديدا. نعم عشقتُ القلم رغم كرهي للمدرسة..
لقد فقد القلم الكثير من حضوره المادي والروحي، بعد اجتياح جهاز الموبايل واللاب توب، حيث صرنا نكتب مباشرة على اللوحة. اختفت قداسة لقاء القلم مع الورق الأبيض حين تلوح بوادر مخاض القصيدة أو المقالة. اختفى طقس الكتابة بكل مهابته وزخمه الروحي.
التكنلوجيا قضمت مساحة من أرواحنا وطقوسنا، ومع هذا لا أخرج من البيت إلا والقلم في جيب قميصي. لا أقبل أن أحيله على التقاعد أو أنكر فضله ورفقته.
لم أكن أحبّ المدرسة، كنت أذهب إليها مُرغما، وكنت أكره معظم الدروس، أعيش القلق حتى يرن الجرس لأخرج، وبسبب رجلي كنت منزويا ولا أستطيع اللعب والركض مع التلاميذ خلال الاستراحة بين الحصص.
كرهي للمدرسة ومحاولات التمارض كي أغيب جعل أبي يقسو عليّ، فتحوّل إلى مصدر رعب، مما سبب لي التبول الدائم أثناء النوم، وكوني أكره المدرسة فلا أنفّذ بعض الوظائف فيقسو علي المعلم، فكان عندي كابوسان، المعلم وأبي.
في الصف الثاني عام 1969 وفي إحدى الحصص الصباحية دخل المعلم حزينا، وأخبرنا عن استشهاد الفريق عبد المنعم رياض، أثناء جولته على الخطوط الأمامية. كان من أبرز وأشرف الضباط المصريين والعرب، وهو عمليّا من جهّز الجيش المصري مع الفريق الشاذلي لمعجزة العبور عام 1973، والسادات أخّر المعركة بعد وفاة عبد الناصر قرابة الثلاث سنوات رغم إلحاح الضباط، ليعطي الانطباع بأنه هو من جهّز الجيش للمعركة.
في درس النشيد، كان عندنا نشيد رئيسي، نشيد الثورة الجزائرية:
قسما بالنازلات الماحقاتْ،
بالجبال الشاهقات الراسيات أن تحيا الجزائر.
مع الأسف ذهب هذا القسم هدرا، بعد ثورة عظيمة قدمت مليونا ونصف من الشهداء، وبرزت أسماء نضالية عظيمة، لكنها لم تشذ عن قانون الثورات، التي يتسلقها ويجني ثمارها الانتهازيون، نعم الثورات تأكل أبناءها.
بعد الرحيل الغامض للرئيس العظيم الطيب هواري بو مدين، عمّ الفساد، وجاعت الجزائر رغم ثرواتها وغناها، كما في معظم الدول العربية، الحيتان يتقاسمون ويلتهمون كل شيء، والشعوب تقدّم الدماء ولا تحظى سوى ما يزيد عنهم من فتات.
ربما الشيء المهم والأبرز الذي استفدناه نحن والأخوة الجزائريون من الثورة العظيمة هو رواية (ذاكرة الجسد) للمبدعة أحلام مستغانمي.
أرجو ألّا ينزعج مني الأخوة الجزائريون، فأنا أحبّ الجزائر كثيرا وأجّل شهداءها وكل رجالاتها العظام، ويحزنني حزنها.
ليس صدفة أو عبثا أني حفظتُ الكثير من قصائد الشعر الجاهلي، وما تلاه، ولم أستطع أن أحفظ النشيد الوطني، حيث كنت أحرّك شفاهي مع زملائي، وأتظاهر بحفظه. كم استهلكت الأناشيد والشعارات من عمرنا وأحلامنا. الأناشيد لا تصنع الأوطان، إنما الأوطان من يصنع الأناشيد.
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو