أيمن جبر
اللوحة: الفنان الهندي أشوك بهوميك
يواصل الكاتب أيمن جبر قصته المطولة بعنوان «ببساطة» ويمكن قراءة الفصول الأولى من خلال الرابط أسفل النص.
كان “ندمان” موظفا من طائفة “عبد المأمور“، قضى عمره في خدمة أسياده… وما أكثرهم… وما أكثر تعاقبهم عليه.
يترقى كل سيد وينتقل، فيحل محله السيد الجديد، كان بالنسبة لهم العصا والجزرة على أهل بلده، وهم بالنسبة له مصدر هيبة الناس، بل ربما رعبهم منه، فعبد المأمور… أمير في أهل بلدته.
أصيب ندمان قبل بلوغه سن المعاش بمرض أقعده، فترك الخدمة وتلاشت تدريجيا الهيبة والنفوذ، مع توالي السنين تمكن منه المرض فأعجزه تماما، أصبح ثقيلا على أقرب الناس إليه، وزَهد فيه الجميع فلا يُزار وأصبح معزولا.
كان يسمع من أولاده دوما ضجرهم منه وتمنيهم له الراحة الأبدية، أصبح من الروتين اليومي جُرأتهم عليه وتوبيخهم له في وجهه؛ بل؛ والمجاهرة بالتقزز منه حين يغيرون ثيابه، فالمُقعد جثة تتنفس وتصرخ، والموت عزيز عليه يتمناه فلا يبلغه، ومع ذلك يمتلئ رعبا من تخيل مصيره بعد الموت.
يظل حبيسا في غرفته بلا أنيس غالب يومه، وما أقسى الليل عليه، لا نشاط له سوى التأمل والتحسر، أشباح من ظلمهم عبر العمر الفائت تتراقص أمام عينيه ولا ترحل أبدا، لقد وقع في الفخ، وخسر امتحان الدنيا.
تذكر شريط حياته، أقر بأن عقوق أولاده والذل الذي يغرق فيه ما هو إلا نتيجة مستحقة للظلم والجُرأة على الله.
في يوم من الأيام صحت المدينة على تسجيل صوتي منتشر على “اليوتيوب”، يروي فيه “ندمان” ذكرياته، لم يكن يتخيل أحد أن في مدينتنا كل تلك الأسرار!، أبرياء ظلموا، ممتلكات نهبت، نفوس مُظلمة فُضحت، رجال ونساء قُهروا وبُهتوا.
لم يكن في التسجيل أكثر من الأسماء، فَضح الرجل الجميع؛ تفوق على الشيخ حسني في فيلم “الكيت كات”
فضح الجميع الظالم والمظلوم، الحي والميت، بل كان هو نفسه أول وأكثر من هَتك ستر نفسه.
هذا هو العمل الوحيد في حياة “ندمان” الذي لم يندم عليه، فالليالي الطويلة التي تكبدها وقاساها وحده، عرفته أنه لم يتبق له أحد يعمل له خاطرا، وكان هذا العمل بمثابة ثقب الإبرة الذي سوف يمرر منه طريقته في التكفير عن ذنوبه وختام حياته متطهرا، وإلا فهو يكاد يوقن أنه سوف يكون مع إبليس في المصير والدرجة.
قامت الدنيا ولم تقعد في المدينة، وأراد المفضوحون وذويهم النيل منه، حتى أولاده أنفسهم تأذوا منه لأنهم فُضحوا فيه وجعل لهم ثارات مع كل من فضحهم، لكن الجميع أحجم عنه يأسا، فكما قال أحدهم: “هل أقتله ويُحسب علي بني آدم“.
تساءل الناس متعجبين؛ “ماذا يحدث في هذه المدينة؟، فلم تعد بسكون الأمس!، لحسن حظ ندمان لم تدم معاناته طويلا. لبى نداء ربه، ربما لن يجد لنفسه في سجله من حسنات سوى تلك الحسنة، فقد أعطى للناس درسا عمليا بأن القبور التي أطمأن الجميع إلى سترها قد يقدر الله أن يأت من ينبشها ليخرج أسرارها، وأن أي ظالم يستطيع الندم والإصلاح حتى آخر لحظة من عمره.