أيمن جبر
اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس
يواصل الكاتب أيمن جبر قصته المطولة بعنوان «ببساطة» ويمكن قراءة الفصول الأولى من خلال الرابط أسفل النص.
أصبح “فكري” على المعاش، سقط في فخ الملل والحيرة في كيفية إنفاق الوقت، انتقال حاد من نشاط مكثف في وظيفته إلى سكون تام بالتقاعد، لم يجد حلا في المقهى فلم يعتد عليها طوال عمره، فطبيعة وظيفته وطِباعه لم يفسحا مجالا إلا لحياته الوظيفية والأسرية، أكثر ما كان يزعجه تلك الجَلبة التي يُحدثها الأولاد في الشارع، فهو يسكن في الطابق الأول عُلوي وكل ما يَحدث من جلبة وصخب يستقر في أذنه، لم يكن يطيق الصخب وكان يكره التوتر، كثيرا ما طلب منهم الابتعاد عن البيت أو خَفض الصوت قليلا، لكنهم أطفال ولا بد لهم من الترفيه واللعب.
في يوم استيقظ كالعادة منزعجا من صخب الأولاد، نهض مستسلما وجلس في الشرفة يتناول مشروبا ساخنا، أخذ يتلهى بمشاهدة الأولاد من مختلف الأعمار وهم يلعبون، كانت بداية العطلة الصيفية وهذا يعني أن الدراسة خُتمت وسيحتل الأولاد والبنات الشارع ليلا ونهارا.
بينما ينظر من الشرفة وفي لحظة إلهام قفز إلى ذهنه خاطر مدهش، في بداية الأمر تعجب منه، بل أنكره، ثم بعد تقليب الفكرة وتأمله فيها برقت عيناه وابتسم في سرور.
هبط إلى الشارع ووقف على عتبة بوابة المبنى؛ ظل أياما يراقب الأولاد حتى اعتادوا وجوده في هذا المكان، كثيرا ما كان يجلس بعض الأولاد أو البنات قريبا منه، فينصت لحوارهم الطفولي أو الصبياني في اهتمام وحرص، ثم بدأ في سؤال من لا يعرفه عن اسمه ثم حاول التفتيش في ذاكرته ليعرف من أبوه وأين يسكن، حتى تعرف على أغلبهم.
تطور الأمر إلى أن شاركهم في بعض أحاديثهم حتى اعتاد معظمهم على وجوده وحديثه معهم، أصبح من الطبيعي أن يَحكم بين طفلين متشاجرين أو مختلفين أو يحكم على لعبهم؛ فيُرجح احتساب هدف أو إلغائه.
وهكذا استغرق “فكري” في هذا النشاط؛ يهبط من منزله مع بداية خروج الأولاد؛ ولا يصعد إلا مع خلو الشارع منهم تماما، مرت الأيام، وأصبح “فكري” من ثوابت المرح للأولاد في الشارع، من جانبه؛ فَهِمَ نفسيتهم وأحلامهم، من جانبهم؛ أنسوا له وبه.
كان ينتهز فرصة تجمع الأولاد بجانبه بين أشواط اللعب، ثم يحكي لهم من القصص التي في خاطره، كان لديه الكثير والكثير؛ فقد كانت القراءة هي هوايته الوحيدة طوال حياته.
فكان ينتقي من القصص ما يناسب مزاج كل طفل أو صبي أو فتاة، كان لا يكتفي بالقص؛ بل يطرح أسئلة مفاجئة عن الأحداث؛ عن مبررها الأخلاقي! عن صوابها! عن احتمال تغيير الحوادث! النتائج!، حتى أنه فعل شيئا غريبا؛ فقد حكي لهم قصة، ثم اقترح عليهم؛ تغيير حدث في القصة؛ جعلهم يتخيلون معه مسار القصة الجديد، حتى عشق الأولاد تلك الطريقة؛ التي تثير فيهم الجرأة على الخيال.
يوما بعد يوم؛ ازداد عدد الأولاد والبنات الذين يأتون لإشباع فضولهم؛ فقد سمعوا ما جعلهم يتمنون معرفة عم “فكري” وحكاياته، ويوما بعد يوم؛ أصبحت قصص عم “فكري” هي غالب نشاط ليلتهم، وهذا على حساب ألعاب الأطفال التي اعتادوا عليها.
في ليلة من الليالي؛ فاجأهم “فكري” بقوله: “من يحكي لنا قصة غدا؟، تحير الجميع!، فمن أين لهم بقصة؟، أخبرهم عن مكتبته، أعلن أن من يريد أن يستعير فلا مانع لديه؛ شرط المحافظة على القصة.
قال: من يريد أن يتطوع ويحكي قصة يرفع يده وسوف أعطيه من مكتبتي ما يختاره ليقصه علينا، توالت الليالي؛ كل يوم يقف طفل أو أكثر أمام الأطفال وفي حضور “فكري” يحكي لهم، وفكري يضبط إيقاع الحكاية بالتدخل ليشجعه، تعمد “فكري” أن يشرح لكل ولد ما صعب عليه ويدربه على الحَكي قبل أن يقف أمام الأولاد والبنات، حرص على شراء القصص المناسبة للأولاد لكي تَمدهم بما يحتاجون.
انتهت الإجازة الصيفية وأصبح اللقاء في مساء الخميس والجمعة، يتجمعون أسفل المبني الذي يسكن فيه “فكري” والذي أصبح هوى قلوب الأولاد والبنات، وحين حلت الإجازة الصيفية التالية قام “فكري” بوضع مكتبة على حائط في مدخل المبني، وضع فيها ما يملك من كتب الأطفال الخاصة به، ووضع الأولاد أيضا قصصهم في المكتبة، وقام بكتابة اسم صاحب القصة علي غلافها.
أعطى “فكري” مفتاح المكتبة لولد من الأولاد وأعطاه مذكرة يُنظم فيها الاستعارة، ومع الأيام يزداد عدد القصص والرفوف بالمكتبة، وكذلك يزداد عدد الأولاد الذين يُودعون قصصهم فيها.
أزعج الأمر وراب بعض الآباء فقاموا بالتواجد بينهم لمعرفة سر حب الاولاد والبنات ل “فكري“!، تحاوروا معه وعرفوا أنه يعطي أولادهم روايات بريئة ومفيدة ولا يودع في أدمغتهم إلا أفكار الخير البعيدة عن التطرف والشذوذ، فشجعوه وشكروه.
زاد عدد الأولاد الذين تَرَقَّى مزاج هوايتهم وقل نصيبهم من الشغف بلعب “الكرة والكمبيوتر والأفلام“، تذوقوا الكلمة وأدمنوا لذة الخيال وهو يتحرك بحرية، فأصبحت الكلمة مثل الشكولاتة في مذاقها، عشق الأولاد وقوفهم في وسط الحلقة أمام أقرانهم وهم يروون الحكايات، وجدوا فيها متعة الفنان المسرحي حين يؤدي دوره أمام الجمهور، وبعد أن كانت أحلامهم معلقة بلاعبي الكرة وأمثالهم، أصبح مكتبة ومسرح عم فكري هما الغاية والمتعة، حتى الأولاد من خارج الشارع، كل من يسمع من صديقه أو قريبه عن عم “فكري” يأخذه الفضول فيسرع للانضمام.
في يوم من الأيام شاهد الناس في الشارع “فكري” وبعض الأولاد، ومعهم “سُلم“، قاموا بتعليق يافطة على حائط في الشارع مكتوب عليها “شارع القراءة“، اشتهر الاسم بين الناس، وأفضل شهرة هي التي تأتي على لسان الأطفال، تحمس أحد المسئولين في مجلس المدينة فقام بالإجراءات الرسمية لتغيير اسم الشارع إلى” شارع القراءة”.
وفي يوم كان الأولاد جالسون في المساء بينما عم “فكري” يحاورهم ويحكي لهم، فإذا بهم يلتفتوا إلى يافطة تشبه تلك المعلقة بالشارع ولكنها أكبر، وقد وضعت عليها ورقة تخفي الكلمة الأولى وظهرت فقط كلمة “القراءة”، فقال له أحد الأولاد متسائلا؛ ” ما هذه اليافطة يا عم “فكري”؟، وما مكتوب فيها؟ فقال له: “اذهب وانزع الورقة وأرنا المكتوب”، فقام الولد ونزع الورقة فإذا بهم يجدوا اليافطة مكتوب عليها؛ “مدينة القراءة”
فنظر لهم “فكري” مبتسما وقال:
هذا حلمنا وسيأتي يوم تعلق فيه تلك اليافطة على مدخل مدينتنا وأنتم من ستفعلون هذا يا فخر أطفال وأولاد وبنات مدينتنا.