بين الدراجة والأطباء

بين الدراجة والأطباء

فواز خيّو

اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس

في مرحلة الدراسة الاعدادية كنا نذهب يوميا إلى قرية لاهثة التي تبعد ثلاثة كم ونعود مشيا، وحين اشترى لي والدي دراجة هوائية صرت أركب الدراجة يوميّا الى قرية لاهثة، وذات صباح وكنت في الصف التاسع وقتها، فجأة صرخت أمي من الفرح حين التفتتْ إلىّ وأنا واقف، ورأت قدمي شبه جالسة، لقد جلّستها دوّاسة الدراجة من الضغط المتواصل أثناء الركوب عليها. شيئا فشيئا جلست قدمي وأعادتني الى الوضع شبه الطبيعي. 

الدراجة أفادتني أكثر من كل الأطباء وطفولتي التي قضيتها في المشفى، ولم تعذّبني. 

قدمي له فضل كبيرعليّ، فلو كان وضعه طبيعيا وبسبب حبي لكرة القدم ربما صرت لاعب كرة في فريق محلي أو منتخب، يلعب شوطي المباراة جس نبض، ثم يشتم الحكم الذي تواطأ مع الفريق الآخر. 

ليس هناك عنصر تخريب وتدمير بقدر الفساد والمحسوبيات والواسطة، حيث تُحيّد الكفاءات الحقيقية القادرة على فعل شيء مهم. 

نعم صُرف على الرياضة ما يعادل وزارة دفاع، وخلال نصف قرن لم نستطع توليف فريق يصل إلى أعتاب المونديال، أو يتجاوز فرق الدول المجاورة.. 

كتبتُ في إحدى الزوايا مرة: قالوا لهم مباراتكم مع إيران حياة أو موت، وانتهت المباراة بالخسارة، وإصابة وسقوط عدة لاعبين بأرجل صديقة. 

*** 

أيام اليفاعة كنت أتساءل عمّا يمكن أن أكون عليه، حيث أجدني وحيدا غريبا مقهورا، دون سند حقيقي، وأتساءل أحيانا: أية صبيّة يمكن أن تقبل بي زوجا في المستقبل. 

دارت الأيام وبسبب ردة الفعل والإرادة تحوّلت عقدة النقص إلى عقدة غرور وقوة.

صادقت أعظم الرجال من عمر أبي ريشة والماغوط وغيرهم، وصادقتُ وتعاملتُ مع كبار رجال الدولة، وكنت متابعا ككاتب ساخر في الجريدة من أعلى مسؤول في الدولة وصولا للبقية ولشريحة كبرى في الشارع السوري.

وعلى صعيد النساء أحببت أجمل نساء البلد وأروعهن، وصادقت شهيرات منهن، وتزوّجتُ أفضل النساء، وأحظى بأجمل وأوسع مساحة من الحب من القراء ومن أروع الأصدقاء والصديقات. 

إن القهر الذي رافقني بشتى المراحل كان كفيلا بأن يحوّل المرء إلى أشرس الوحوش، لكنه حوّلني إلى غيمة طافحة بالحب، وجعلني أجمع في شخصي ثنائية مهلكة، قلب قديس وطبع ديكتاتور. لا أستطيع أن أؤذي نملة، ولا أحتمل أن يُرفض لي طلب. 

وخلصتُ إلى الخلاصة التالية: المكانة التي تأتي بقرار تذهب بقرار، لكن المكانة التي تصنعها بجهدك وتعبك، لا تستطيع أية قوة أو قرار ان يُذهبها.

*** 

كطفل أعرج في ذلك الوقت وفي مجتمع أعرج أو مشلول، فأنت تشعر بالنقص. والشعور بالنقص ينسحب على كل طموحاتك ومشاريعك، كلها تتعرض لتنزيلات.

لكن كانت إرادتي أني مستقيم ومنتصب وبرجل عرجاء، أفضل من أناس مستقيمي الأرجل ولكن برؤوس عرجاء أو مشلولة.

كنتُ في عالم آخر وتحت سطوة عالمي الذي تركته، وحادثة مقتلي في حياتي السابقة، ووجه عروسي الذي ظل يلاحقني كصورة ظليّة لسنوات طويلة.

هذا الأمر أضفى عليّ عصبيّة شديدة، وغربة مريرة عن كل ما حولي، وليس من يفهم عالمي، فقد كنت أُعامل كولد عاق، لا يسمع الكلمة ولا ينسجم مع أحد.. 

دخلتُ الثانوية الصناعية اختصاص كهرباء. في الثانوية كانت طبيعتي المرحة هي ما قرّب الجميع إليّ، وكانوا يختارونني لأمثلهم في فريق المناظرات مع الثانويات الأخرى، وغالبا ما كنت أخذلهم، والجميل أنهم ظلوا يثقون بي ويرشّحونني، كأي نائب أو قائد سياسي. 

قبيل نهاية سنة البكالوريا؛ نظرة عابرة غامضة من جارتي في السكن، هدى طالبة البكالوريا، أشعلت كل بيادري، وحوّلتني الى زوبعة.

غادرت السويداء إلى القرية، ثم ذهبت الى الجيش وأصبحت هدى بعيدة المنال، وبدأتُ أحاول رسم هدى بالكلمات، وليس لديّ فكرة عن بحور الشعر ولا رصيد ثقافي ولا لغوي لديّ، كنت قاحلا تماما، لكن حجم المنخفضات الجوية التي تجتاحني، أوقدت تصميمي لأستصلح صحرائي وأحولها الى واحة. 

بعد أربعين عاما، تواصلتْ هدى معي عندما خرجتُ من الاختطاف، واطمأنينا على بعضنا مرتين أو ثلاث، ثم أغلقتْ صفحتها ودخلت في الغياب من جديد.

هدى الجميلة الطيبة، والمعلّمة المتقاعدة الآن؛ هي من جعلني أحمل القلم، ذلك الحمل الذي سيقوّض عظامي ويعيد ولادتي وصياغتي من جديد.


من قيم الحيوانات..

من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s