د. علي الراعي.. مثال المثقف الحقيقي

د. علي الراعي.. مثال المثقف الحقيقي

د. حمدي سليمان

اللوحة: الفنانة الإسبانية أنابيل أندروز

لعب الحس الليبرالي المنفتح دورا مهما في مسيرة الدكتورعلي الراعي الفكرية والنقدية على السواء؛ وربما كان لنشأته في مدينة الإسماعيلية ذات الطبيعية الكزموبوليتانية أثرا كبيرا في ذلك. فالإسماعيلية كانت تحتضن العديد من الجنسيات المختلفة التي تعايشت مع بعضها البعض، الأمر الذي مكن الراعي من صنع صداقات مع أناس شتى ممن اختلفت أديانهم واتجاهاتهم السياسية والفكرية، وهو ما أكسبه ما يمكن أن نسمية “بالحس المدني”، فقد كره التعصب، وظل يردد: “دع مائة زهرة تتفتح .. لا يهم أن تتفتح، في حقل يمين أو حقل يسار، شريطة أن تكون زهورا بالفعل ذات قيمة ونفع للناس”. بتلك الفلسفة الإنسانية الراقية المبنية على المحبة وكراهية التعصب عمل الراعي طيلة حياته، متخذا من الجدية والالتزام الذي لم يفارقه منذ أمسك بالقلم في أربعينيات القرن الماضي حتى نهايتـه في تسعينيات نفس القرن منهجا ونبراسا. فقد كان الراعي صاحب رسالة إبداعية وفكرية وقومية، لم يترك للأيديولوجيات الطاغية في أوج سخونتها واستقطابها أن تتملك منه، ولم يتخل عن مبادئه حتى في أصعب الظروف. حيث ظل يعمل خلال رحلته الطويلة على كل المستويات بنفس الروح مقدما لنا نموذجا للمثقف الحقيقي الذي سخر حياته وقلمه من أجل ترسيخ مفاهيم الحرية والاستنارة والوطنية، وكان واضحا أقصى الوضوح في دفاعه الشرس والنبيل عن القيم التي نذر حياته من أجلها‏.‏ كما أتخذ من النقد رسالة وطنية واجتماعية، وانحاز إلى الفن الجميل الذي يحمل الفكرة العميقة دون تجهم، ويحافظ على الهوية الثقافية دون انغلاق على الذات، ويفتح الباب للتجريب، والانفتاح على ثقافات العالم، كما امتلك الراعي مقدرة فذة على تفسير وتقديم واقعنا الثقافي تاريخا وحاضرا. يقوده إلى ذلك ضميره الذي تفتح على الليبرالية، وذائقته التي تربت على الفنون المختلفة، منذ شاهد من شرفة حجرته في مدينة الإسماعيلية في العشرينات من القرن الماضي ملصقا عن فيلم ليوسف وهبي مأخوذا عن مسرحية شهيرة له‏، كانت الألوان الصارخة للملصق هي ماجذبت انتباهه ولم يهدأـ كما يروي في كتابه هموم المسرح وهمومي – حتي دبر ثمن تذكرة السينما وشاهد الفيلم‏، وعرف طريقه بعد ذلك‏ حينما قرر أن تكون الثقافة والفنون مقصده واختياره المستقبلي،‏ وقد كان، حيث انتقل إلى القاهرة ليلتحق بالتعليم الثانوي‏،‏ ثم التحاقه بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة الإنجليزية، وتخرج منها عام 1944، والتي اطلع فيها على الكثير من المعارف، وحرص وهو في هذا السن على مشاهدة السينما والمسرح بل انه ترجم في الفترة نفسها احدى المسرحيات التعليمية‏.‏ وتعد إنجازات الراعي وتأثيره في الفكر الثقافي والأدبي من الإنجازات العظيمة، بدءا من عمله مذيعا ومخرجا في الاذاعة المصرية‏،‏ إلى أن جاءته منحة من جامعة برمنجهام في انجلترا لدراسة المسرح‏،‏ ونيل درجة الدكتوراه برسالة عن برنارد شو فيلسوف المسرح الإنجليزي الحديث، تلك البعثة التي تعلم فيها الدرس الأول الذي لقّنه إياه أستاذه ألارديس نيكول، حيث حذّره من التركيز على الجانب الفكري للفن فحسب، قائلاً: لا أريد أن أقرأ منشوراً أيديولوجيا آخر عن برنارد شو، مما جعله يخصص بحثه لدراسة المؤثرات المشكّلة للتقنيات الفنية، أي تلك العناصر الداخلية والخارجية التي تحدد أساليب العروض المسرحية من كلمة وحركة وضوء وإيقاع. وكان الراعي المفتون منذ صباه الباكر بأشكال الفرجة الشعبية، مهيأ بطبيعته للعزوف عن هذه التوجهات الأيديولوجية.


متى تحتفي الإسماعيلية بأعلامها الكبار؟

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s