قراءة في رواية «غبار 1918» لفاتن المر

قراءة في رواية «غبار 1918» لفاتن المر

هناء غمراوي

قبل الولوج في عالم الرواية لا بد أن يستوقفنا العنوان، فهو بخلاف ما اعتدنا على قرائته يحمل رقماً هو في الحقيقة ليس رقماً عادياً، وانما هو بمثابة شيفرة دالّة على حقبة معيّنة ومهمّة من التاريخ الحديث عموماُ. وليس تاريخ المنطقة العربيّة وحسب. وتحديدا سوريا ولبنان وفلسطين، أو ما اتفق على تسميته بسوريا الكبرى، آنذاك. قصدت السنة التي خمدت فيها نيران الحرب العالمية الأولى. ورغم أنه لا يفصلنا عن تلك الحقبة سوى قرن واحد من الزمن، وهو يعتبر مدة زمنيّة قصيرة نسبياً، الا اننا لا نستطيع ان نغفل التحوّلات الكبرى، والتغييرات التي أفرزتها تلك الحرب في تقرير مصير بعض الشعوب. وبالتحديد وعد بلفور، وتأثيره على مصير شعب فلسطين وشعوب المنطقة العربيّة ككل.

وهنا يقفز الى الذهن سؤال مهم؛ هل نحن بصدد قراءة رواية تاريخية تسرد فصولاً من الماضي موثقة بالأرقام والأحداث؟ أم اننا أمام رواية متخيّلة، تتكئ على التاريخ وتحاكيه عبر شخوص وأحداث من الماضي فقط!

ثم ما الذي يدفع بكاتبة مثل الدكتورة فاتن أن تنبش في ماضٍ مضى عليه قرابة مائة عام!

هذه الأسئلة لا بد أن يعثر القارئ على إجابات لها وهو يقلِّب صفحات هذه الرواية… 

مرة ثانية، وبعد العنوان يقفز الى الواجهة رقم جديد تفتتح به الكاتبة روايتها ومكان بعيد عن مسرح الأحداث؛ ديترويت 1972؛ تاريخ يعتبر بعيداُ نسبياً عن زمن الحدث الرئيسيّ، الذي كساه الغبار.

من ديترويت، من هنا تنطلق الحكاية. حين يعثر جون بيترسن في مكتب والده المتوفي حديثاً على كتاب بعنوان «قادم من زمن المجاعة» كان والده ينوي ترجمته من اللغة العربيّة الى اللغة الانكليزية، كما ترجم عشرات الروايات من قبل. ولكن الموت عاجله قبل ان يباشر مهمته. جون، الذي ولد في أميركا من أم أميركية، وأبٍ لبنانيّ هرب من لبنان في زمن المجاعة؛ تعلّم اللغة العربيّة، لغة والده الذي لم تربطه به علاقة طيبة يوماً طيلة حياته. وها هو يحمّله بعد وفاته ارثا ثقيلا؛ ذلك الكتاب اللغز الموقع باسم: “يوحنا بطرس”.

ابتدأت الحكاية مع الطفل يوحنا، الذي عانى اليتم والتشرد بعد هجرة والده الى أميركا هرباُ من جور المحتل التركي، وهرباً من التجنيد الاجباري في صفوف عسكر هذا المحتلّ؛ بداية الحرب العالمية الأولى. تاركا خلفه زوجة وثلاثة أطفال أكبرهم يوحنا. وتصف الكاتبة، المر، على لسان يوحنا الطفل فصول المجاعة، التي ضربت لبنان نتيجة الحصار الذي فرض على الجبل آنذاك، عندما منع الأتراك دخول القمح وباقي الحبوب اليه. ثم جاء الجراد فقضى على ما تبقى من خيرات البلاد. فكان الناس يموتون على الطرقات جماعات عندما لم يجدوا ما يقتاتون به. بعد أن أكلوا الأعشاب والقطط والكلاب، ولم ينج منهم حتى الجراد، الذي كان يغزو الحقول، والشجر. 

الجوع كان سيد المرحلة، قبل ان يتقدمه الموت ليحصد الآلاف من اللبنانيين، ومن بينهم والدة يوحنا وشقيقه وشقيقته الصغرى.

هام يوحنا الطفل على وجهه وبخاصة بعد اختفاء العم انيس، الذي كان يرعى العائلة بعد هجرة الأب وانقطاع أخباره. وصار ينتقل من ميتم الى آخر حتى عثر به خاله جرجس واصطحبه الى دمشق حيث كان يخدم كاهنا في أحد الأديرة هناك.

تبدأ مرحلة جديدة من رحلة يوحنا مع الحياة، رحلة اتسمت بنفس نضاليّ عالٍ عبرت عنه الكاتبة بقوة عندما حمّلت هذا الفتى الذي يعاني عقدة اليتم وآلام الفقد، والخارج لتوه من حربٍ ومجاعة؛ أحلام وطن، وآمال أمّة بالحرّية والعيش بكرامة. 

في دمشق يتعرف الفتى يوحنا على الآنسة ماري العجمي، الصحافية الناشطة في مقاومة الاحتلال التركيّ، ومن ثم الفرنسيّ فيما بعد. حيث كان يتابع دروسه المهنية على مضض في حرفة النجارة في المعهد المهني الذي ادخله اياه خاله جرجس مع صديقه الأرمني آرام، الذي اختار طريقا ً أقصر لتحقيق حلمه عندما انتحل شخصية زميله نظام الذي توفي في الميتم وذهب مع العم الغنيّ، المزعوم الى بيروت، ليبدأ حياةً جديدة.

يكتشف يوحنا ميله الفطريّ، وشغفه بالقراءة. ما رشحه لمساعدة الآنسة ماري العجميّ رغم صغر سنه في عملها الصحفيّ؛ ومهد له بعد ذلك للاشتراك في النضال الفعليّ ضد المحتلّ وذلك بتوزيع المنشورات في أحياء دمشق ودسها من تحت الأبواب. منشورات تدعو الى مقاومة المحتل الجديد، الذي دخل البلاد بثوب المخلص الذي يخفي سكاكينه وسمومه تحت ذلك الثوب. وذلك قبل أن يصبح أحد مقاتلي الثورة الكبرى التي اندلعت بقيادة سلطان باشا الاطرش وشارك فيها بعض زعماء المنطقة كحسن البنا ويوسف العظمة وغيرهم… 

غبار 1918 تسرد فصلاً من وجع الانسانية، عندما يمارس المحتل سياسة الظلم والقهر، ويعبث بمصائر الناس؛ وأكثر فإن الكاتبة المرّ حاولت من خلال سردها للأحداث الموثقة ان تلقي الضوء على مرحلة مهمة في تاريخ لبنان الحديث، وركزت على نقاط مضيئة في تاريخ مدينة دمشق النضاليّ؛ عندما قصف الفرنسيون أحياءها بالطائرات لإسكات الاصوات المطالبة بالاستقلال. وقد أطلقت على الواقعة نكبة دمشق؛ بسبب العدد الكبير من الضحايا الأبرياء الذين سقطوا نتيجة القصف للأحياء الشعبية. وبسبب الأضرار الكبيرة التي نالت المباني الأثرية فيها. حيث زارها أمير الشعراء أحمد شوقي مع عدد من الشعراء العرب وقال قصيدته المشهورة في المناسبة سنة 1926.

سلام من صبا بردى أرقُّ ودمع لا يُكفكف يا دمشقُ 

………………………………

دم الثوار تعرفه فرنسا وتعرف أنه نور وحقُّ 

وحررت الشعوب على قناها فكيف على قناها تُسترقُّ

وللحرية الحمراء باب بكل يدٍ مضرجةٍ يُدقُّ

يوحنا، ذلك الطفل “القادم من زمن المجاعة” والذي شارك ثوار دمشق مقارعتهم للمحتلّ ووقع جريحاً في صفوفهم؛ تُوجت رحلته مع الحياة بالعودة الى بيروت، والبحث عن حبه الطفوليّ الأول “زينة”. لتؤكد لنا الكاتبة قناعتها في أن قيمة الحياة تكمن في خوض غمار الرحلة، عندما نتسلح بالحب بالأمل، وعندما نمتلك روحاً نضاليّة عالية تؤمن بالانتصار للحق وللقيم الانسانيّة الخالدة.


فاتن المر؛ روائية من لبنان استاذة في الجامعة اللبنانية حائزة على دكتوراه في الأدب الفرنسيّ.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s