فواز خيّو
اللوحة: الفنان الإسباني يوجينيو لوكاس فيلازكيز
كانت دقات ساعة البيغ بن هي المنبه الذي يوقظني في السادسة صباحا وأحيانا في السابعة، وتتبعها عبارة «هنا لندن» وربما من أهم الأشياء التي ورثتها عن والدي هي إذاعة لندن القسم العربي، حيث كانت تشكل له صباحيته الاجبارية.
كانت إذاعة شاملة، سياسة وأدب واجتماع وغيره، وكان لديهم طاقم رائع مثل مديحة رشيد المدفعي وهدى الرشيد وعاطف عبد الجواد وعبدالله المعراوي والمسلّمي وغيرهم. وكانت لهم طقوسهم في تقديم برامجهم أو نشراتهم الإخبارية؛ كان صوت مديحة أو هدى في نشرة السادسة أو السابعة صباحا، حيث جدران البيت تردّ الصدى، وكأنك تسمع تراتيل مقدسة، خاصة مديحة.
من خلال هذه الإذاعة تفتحت معارفي وعرفتُ الحياة والعالم، وتابعتُ مجريات الأحداث وخاصة الثورة الفيتنامية والكمبودية ولاوس وغيرها.
كان نهر الميكونغ حين يُلفظ اسمه له وقع كبير وحار، حيث دارت معارك طاحنة وطويلة على ضفافه، وكان اسم هوشي منه وجياب، أعظم قادة الثورة الفيتنامية وجنرالاتها يتردد كثيرا، وتابعتُ الثورة الأريتيرية العظيمة والتي لا تقل عن الجزائرية بأعمالها وتضحياتها الجليلة، وانتهت كالجزائرية وكل الثورات، بسيطرة فصيل وإقصاء باقي أجنحة الثورة وقمع الجميع والشعب معهم.
وحين كنت في العاشرة كنت أحفظ أسماء معظم زعماء العالم ووزراء خارجيتهم، ولديّ فكرة لا بأس بها عن دولهم.
ساهمتْ هذه الإذاعة في إتقاني للغة، فأتقنت اللغة سماعيا، يهمني أن ألفظ وأكتب بشكل صحيح، ولا يهمني حفظ القاعدة، ثم تبحّرتُ في القواعد لاحقا حين دخلت الجامعة.
بالتأكيد في ظل اجتياح المحطات التلفزيونية يتلاشى دور الإذاعة، ورغم مجيء إذاعة مونتكارلو لاحقا وأهميتها، ظلت إذاعة لندن محتفظة بوزنها وريادتها.
مرة ظهرت هدى الرشيد في مقابلة على الشاشة فنادت عليّ زوجتي هيلانة فجئت مسرعا، وكم كنت سعيدا برؤيتها. وأنا أصوغ سيرتي أتلقى الخبر المؤلم بإقفال القسم العربي في هذه الإذاعة المجيدة، بسبب ضغط النفقات.
***
انتصرت الثورة الكمبودية وحررت كمبوديا من الفرنسيين والأمريكيين، لكن الثوار المنتصرين الخمير الحمر بقيادة بولبوت قدموا نسخة من أسوأ وأكثر أنظمة الطغيان إجراماً، وقتلوا مليونين من شعب كمبوديا الصغير أثناء حكمهم.
انتصرت الثورة الأريتيرية بعد نضال مرير وتضحيات بطولية، لكن جبهة أسياس أفوركي أقصت وصفّت الجبهتين الأخريين وانفردت في السلطة عبر قمع وديكتاتورية مقيتة.
هكذا حصل مع الثورة الجزائرية، اندفع المتسلقون إلى الواجهة واضطهدوا الثوار الحقيقيين، وأصبح الجزائريون بعد كل ضحاياهم ليسوا نادمين على ضحاياهم فقط بل على رحيل الفرنسيين.
وفي الصين على يد ماو تسي تونغ ومن تلاه، وخاصة أثناء ما سمي بالثورة الثقافية وضحاياها، والاتحاد السوفييتي إثر الثورة البلشفية، وكوريا الشمالية علي يد كيم إيل سونغ وأولاده من بعده، وأوروبا الشرقية بعد سقوط الاشتراكية.
حتى الثورة الفرنسية التي غيّرت مفاهيم السياسة في العالم، وحققت نسبة من التطور والرفاه، لم تحقق العدالة الاقتصادية، حيث يصبّ معظم الاقتصاد الفرنسي في بضع شركات، وكل عقد تشهد فرنسا اضطرابات واسعة. هكذا حصل في زيمبابوي، وهكذا حصل في كوبا وغيرها.
وفي سوريا قطفت البورجوازية الدمشقية والحلبية ثمار الثورة، وأسست أولى الديمقراطيات في العالم العربي، حتى جاء العسكر بأول انقلاب عام 1949 عبر حسني الزعيم، ليقلبوا الحياة، ويدشنوا عصر الانقلابات على امتداد الخارطة العربية.
هل هذا هو فعلا قانون الثورات؟ أم أن هناك قوى خفية ترافق الثورات لتجزّ رأسها وتعيد انتاج النظام الساقط بنسخة أسوأ، لتقول للشعوب إياكم أن تحاولوا تغيير الوضع القائم؟ فقط فيتنام وجنوب إفريقيا نجتا بشكل نسبي من هذا المصيرالأسود.
ورأينا كيف انتكس الربيع العربي بثوراته الشاملة التي انطلقت من تونس عام 2011، من خلال تسلّق الإسلام السياسي وإجهاضه وبدعم غربي، مما دفع الشعوب للاستعانة بالعسكر الذي ثارت عليه بالأصل، ليخلصها من غول التشدد والاستحواذ والاقصاء.
في الغرب يقدّسون الديمقراطية والمواطن، لكن لن يسمحوا لك ببناء الديمقراطية، لأن الحاكم في بلد ديمقراطي لا يستطيع صرف دولار واحد دون وثيقة، بينما الديكتاتور يستطيع صرف اقتصاد البلد وبيع ثرواته دون أن يسأله أحد، أو يتجرأ على سؤاله، لهذا لن يدعموا الثورات والديمقراطيات، لأن وجود الديكتاتور يضمن لهم استمرار سرقة الثروات ومنحهم معظمها مقابل دعمه وبقائه في السلطة.
الحل الوحيد والأمثل هو الديمقراطية، حيث يكون الوطن للجميع ومن أجل الجميع. هنا يتحقق الاستقرار والأمان ويتحقق النمو الاقتصادي والاجتماعي والعدالة المجتمعية.
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو