حاوره: الشاعر عباس محمد عمارة
اللوحة: الفنان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي
يرى الشاعر السوري شفيق درويش على أن الهايكو نص ياباني، ولا يمكن كتابته خارج اللغة اليابانية وخصوصية أصواتها، وكل ما نكتبه اليوم يقع على ضفاف الهايكو وليس في القلب منه، بمعنى يكتب شعراء الهايكو العرب قصائد قصيرة أخذت من الهايكو أجمل ما فيه من وجهة نظرنا. ويضيف القلة ممن كتب الهايكو أدركوا جوهر هذه القصيدة ونصوصهم ممتعة وعميقة، أما الغالبية العظمى فتظن أنها تكتب الهايكو، وهنالك مجموعة ثالثة فهمت جوهر الهايكو واستفادت منه وتكتب نصوصا فيها كل ما تعلمته من الهايكو، لذلك تأتي هذه النصوص صادقة غنية بسيطة سهلة مختصرة.. ويؤكد درويش أن أهم ما يمكن تعلمه من تجربة الهايكو هو الشعور النقي والحقيقي بالأشياء من حولنا، بصفتنا مجرد جزء من سيرورة الكون والحياة، على عكس فكرة المراقب المستقل للأشياء والحيوات التي تتبناه ثقافتنا والثقافات الأخرى غير اليابانية. فالعلاقة الحقيقية بين الإنسان – الكاتب – والعالم من حوله ليست مجرد تعاطف بل انتماء حقيقياً وقبولا تاما وسرورا بهذا الانتماء، وما بين المراقبة والانغماس الكلي النابع من الانتماء، تكمن مفارقة الهايكو عن الأنماط الشعرية الأخرى.. إلى تفاصيل الحوار:

كيف كانت البدايات ولماذا اختار شفيق درويش الهايكو؟
صدفة ليس أكثر.
فقد سبق لي واطلعت على الأدب الياباني من خلال روايات ياسوناري كاواباتا ويوكو ميشيما.. ولم يخطر لي حينها دراسة الشعر الياباني ولا حتى أن لهذا الشعر خصوصية تستحق البحث، استمر الحال حتى عام 2013 حيث اجريت بحثاً (من باب الفضول) عن الشعر الياباني وعندها كان اول لقاء مع كلمة (هايكو) فلفتتني بساطة مواضيعه وقصره.. ثم تعرفت على مجموعات عربية مخصصة للهايكو مثل الهايكو سوريا ونادي الهايكو العربي وعشاق الهايكو وطورت التجربة.
أما لماذا الهايكو؟ فمن خلال معرفتنا الضئيلة حينها (والتي تبين لاحقاً ان اغلبها كان غير دقيق) فقد كانت كتابة الهايكو تمثل المخرج النظري لنا من ازمة النص الطويل من جهة، ومن جهة اخرى حملت نقاء العودة الى حيث النقاء في عالم مزدحم وأعني الطبيعة كما هي.
متى تؤرخ لأول نص كتبته في الهايكو؟
عام 2013 وكانت اربعة نصوص متتالية.
ماذا تعني بالنسبة لك مدينة “برشين” وانت القائل فيها:
شتاءُ برشين –
لو كانَ للقمرِ كمٌ
لمسحَ أنفَهُ هو أيضاً
انا حالياً في برشين واكتب هذا الجواب..
برشين قرية جبلية سياحية بامتياز، باردة جداً شتاءً ولطيفة صيفاً، وعلى الرغم من أنني عشت حياتي في مدينة حمص (55 كم عن برشين) فقد شكلت برشين فسحة من الحرية بالنسبة لي، فيها بنيت من الطين منازل وحدائق كانت تنهار قبيل عودتي إلى البيت فابنيها من جديد في اليوم الثاني.. في برشين كان الحب الأول (تبين لي لاحقاً انها تصلح فزاعة لكتابة الهايكو اكثر منها حبيبة).. في برشين ركضت لعبت، ساعدت جدي في نقل القمح المحصود وجني التفاح والبطاطا… في برشين عرفت كيف يصبح المساء فرصة لتناول الذرة المشوية تحت سماء مليئة بالنجوم..
برشين بالنسبة لي ليست مجرد قرية.. هي جذر عميق وثلج أبيض وتراب دافئ ووردة.
ما أهمية ما تكتبه في صفحتك الشخصية (الفيسبوك) “أوراق من طين”. إذ تبدو بالنسبة للمطلع على الهايكو وخاصة في النصوص الثلاثية – رسالة رفض غير مباشرة من الهايجن شفيق درويش إلى الذين يدعون أن ما يكتبون هو هايكو، حيث لم تطلق على هذه النصوص -الثلاثية- تسمية الهايكو؟
هذا السؤال فخ جميل.. والجواب شقان..
الشق الاول: لدى الكثيرين هوس تسمية النصوص وتصنيفها.. فترى نصاً جميلاً، موضوع تحت مسمى هايكو وهو ليس كذلك، وبمجرد أن تعبر للكاتب ان هذا النص جميل جدا ولكنه ليس هايكو.. تنقلب سحنته ويشهر سيفه كأنك اهنت عرضه الأدبي وشرف الكتابة عنده، ومهما حاولت أن ترقّع تعبيرك الاول فلن تستفيد.. ستصبح عدوه ومدمر الهايكو الأشد خطورة لمجرد انك قلت ان نصه ليس هايكو، وما يعزز هذه المشكله كثرة محترفي النفاق وقد جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتدعم نفاقهم فانطلقت مجموعات الهايكو لتقيم وليمة على جسد نقاء الهايكو وتحوله الى مادة دسمة للايك والوااوو وروعاتك وكل انواع التصفيق والتقريظ والمدح والكذب والخداع ونفخت في رؤوس فارغة، فعلى الصفير وكبرت الرؤوس، فظن الشويعر المستجد انه اعجوبة الشعر الجديدة، فارس نوبل، بديل ادونيس في الحياة، ومصحح كتابة باشو!..
وانا اتخذت موقفاً وجودياً من الموضوع.. أنا لا أجامل ولا اضع لايك لنص او قراءة لا تعجبني واكتب ولا يعنيني التصنيف مطلقاً ولا اهتم لإعجاب بل في الغالبية العظمى من المرات لا أرد على الاعجاب او التقريظ واعتبره مشاركة في كتابة النص ليس اكثر (الكثيرون يعتبرونني متعالياً ولا ابادلهم اللايك بلايك من قلة لباقتي).
الشق الثاني: وهو الاهم.. الهايكو نص ياباني (لم ولا ولن) يكتب خارج اليابان قولاً واحداً، ما نكتبه وكتبه كل العالم تحت مسمى هايكو يفتقد للشرط الاساس في الهايكو الياباني اي اصوات اللغة.. الهايكو في اليابان مثل الزجل اللبناني والمخمس العراقي والشعر النبطي في الجزيرة العربية والغناء الشعبي المصري والعيطة المغربية والقدود الحلبية والعتابا والميجنا الفلسطينية والسورية.. لا يمكن كتابته خارج لغته..
ولكن.. نحن نكتب على ضفاف الهايكو نصوصاً اخذت من الهايكو أجمل ما فيه من وجهة نظرنا..
انا اليوم اكتب نصوص ما بعد تجربة الهايكو بمتعة هائلة وهذه النصوص تمتلك كل ما تعلمته من الهايكو لذلك هي صادقة غنية بسيطة سهلة مختصرة.. وبالتأكد تحمل مفهوم الجمال الشفيف المفاجئ (اليوگن) كأهم عنصر في الهايكو… بالنسبة لي الهايكو محطة وليس نقطة وصول.
في ضوء نظرية النقد الحديث برأيك هل نعول على ما يريده القارئ ام على الهايكو كجنس شعري له تقنيات وخصائص مختلفة عن الأجناس الشعرية الأخرى؟
نعول على الشعر.. الشاعر لا يكتب من منطلق (الجمهور عايز كده) ومن يفعل لن يكون أكثر من شاعر بلاط في أحسن احواله.. وكذلك لا يمكن ان تأسر الشعر والشاعرية في نصوص مقولبة شكلا او مضموناً (هايكو او غيره).. من الضرورة بمكان هضم تجربة الهايكو واعادة انتاج شعر جديد يكتنز أجمل ما تعلمناه من هذه التجربة مع امكانية الاستمرار بكتابته طبعاً.
بين الحين والآخر تظهر بعض المحاولات التي تحاول كتابة الهايكو على نظام التفعيلة أو عمود الشعري العربي، ما هو رأيك بهذه المحاولات؟
فاشلة.. مثل حمصي يغني المامبو السوداني!
في ملتقى الهايكو الأول عام 2016 الذي عقد في محافظة اللاذقية قلت “إن لم تشعر بما تشعر به الورقة حين تسقط فأنت لست بهايجن” ماذا تقصد بهذه التغريدة أن صح التعبير؟
اهم ما يمكن تعلمه واكتسابه من اختبار تجربة الهايكو هو هذا الشعور النقي الحقيقي بالأشياء والاشخاص وكل تفصيل من تفاصيل الكون لأنك مجرد جزء من سيرورة الكون والحياة.. وهذا غير ما نتبناه نحن في ثقافاتنا العربية (وحتى اغلب مناطق العالم) والتي تقوم على فكرة المراقب المستقل لمسير الاشياء والحيوات في سيرورة الحياة الشاملة… ليست المسألة مجرد تعاطف.. بل انتماء وقبول وسرور بهذا الانتماء.
كيف ترى مستقبل الهايكو المكتوب باللغة العربية؟
قلة اقل من قليلة أدركت جوهر الهايكو وتكتبه وسوف تستمر بكتابته ونصوصهم ممتعة وعميقة.. الغالبية العظمى تظن انها تكتب هايكو وتجد جماعات تطبيل وتزمير ستبقى تكتب ما تكتبه وتصيح مع دجاجات المجموعة كلما باضت نصاً.. أما المجموعة الثالثة والتي اعتبر نفسي منها فهي مجموعة هضمت الهايكو واستفادت منه وتكتب نصوصه بين الفينة والأخرى ولكن الاهم ان خلاصة الهايكو موجودة في كل ما تكتبه حتى خارج تصنيف الهايكو.
نصوص هايكو للهايجن شفيق درويش؟
بطيئاً يمضي القطار
أطفالٌ يُلوِّحونَ
لمسافرين لا يعرفونهم
***
لا أدري يا نجمةُ
مَضَى وقتٌ طويلُ
مذّ كنا معاً
***
دار العجزة
جدات تروين الحكايات
لأحفادٍ لم يحضروا
***
صوتُ السفينةِ
يغادرُ الميناءَ
صوبَ المدينةِ
***
ما أكبرَها
ورقةُ الموزِ تكفي – ليكتُبَ عليها
سيرةَ حياةٍ كاملةٍ
***
بينَ حديقَتِي
وحديقَتِكِ
سورٌ مِنْ خَشَبْ
***
الثلجُ يعودُ
أثارُ أقدامي فقط
بقِيتْ في البحر
***
كما توقعت
سماءُ قريَتي
نجومُها أكثرْ
***
الشمعةُ التي أحاولُ إشعالَها
تدفعُ ظلِّيَ
بعيداً عني

شفيق درويش شاعر وقاص سوري مواليد 1963، وهو مهندس معماري. يكتب القصة القصيرة وقصة الطفل ومختلف انواع الشعر الحديث والهايكو، مشارك ومساهم في العديد من ملتقيات الهايكو التي اقيمت في سوريا، وكان من المساهمين والمحاضرين في ملتقى الهايكو الأول في اللاذقية عام 2016 والثاني في طرطوس عام 2017.. له عدد كبير من المشاركات الثقافية الشعرية والقصصية ومحاضرات حول الهايكو والشعر.