أيام حلب الخالدة

أيام حلب الخالدة

فواز خيّو

اللوحة: الفنانة السورية ثريا قاوقجي

في صيف عام 1981 التحقت بالخدمة العسكرية في حلب. وكانت الدورة في المدرسة الفنية الجوية. كانت مرحلة جميلة حيث تختلط بالمئات من الشباب من مختلف المناطق، فتعرّفتُ على أصدقاء جميلين، وبينما كان الحريق في أعماقي بسبب البعد عن هدى، وكيفية التعبير عنه، خاصة حين علمت أن أحدا تقدم لخطبتها وليس بمقدوري فعل شيء. 

كان بعض الزملاء يخربشون في محاولات شعرية أو نثرية، وأنا قاحل لأني خريج ثانوية صناعية، حيث غياب شبه تام لمنهاج اللغة العربية والنحو وبحور الشعر. استهوتني الفكرة وبدأت أتعربش حتى تعلمت البحور وبدأت أخربش. كتبت كثيرا ومزقت حتى استقامت القصيدة العامودية بين يدى، وبشكل سردي خال من اللمحة الشعرية. 

رغم قسوة غربتي الشخصية فقد عشت في الدورة العسكرية فترة مليئة وكثيفة مع شباب جميلين من شتى الأصقاع، وكنت محبوبا. 

في المهجع كنت مثل المختار صاحب قرار، كنا منسجمين ولا نريد أحدا غريبا، وذات مساء جاء عسكري حاملا حقيبته ويريد الإقامة معنا في المهجع، فقلت له: ممنوع لأي عسكري جديد أن يسكن معنا فانصرف، وبعد دقائق جاء الضابط المناوب وكان ملازما أول، وكان طويلا محنيّ الظهر وكأنه في الأربعين ومعه نفس العسكري، سأل: مين اللي ما بدو يخليه يقعد بالمهجع؟ قلت له : أنا سيدي. قال: بدو يقعد بالصباط. 

قلت له: ما بيسعو سيدي، ضجّ المهجع بالضحك، فارتبك الضابط وأخرجني، وعاقبني زحفا لمدة نصف ساعة.

*** 

ما أغبى أن تكون طيبا وصادقا، فتصدّق كل ما يقال أو ما يظهر أمامك، لاعتقادك أن الآخرين مثلك. 

عند توزيع الطعام كنت أرى الرّقباء المدربين يحملون قصعاتهم مليئة بالطبيخ وعلى وجهها قطعة لحم صغيرة أو قطعتان، فأشفق عليهم أحيانا وأقول: يا للعدل، إنهم لا يأخذون مثلنا رغم أنهم مدرّبون، ثم نكتشف أن قصعاتهم كلها لحم وقد وضعوا على وجهها بعض الطبيخ لإخفائها، وللتمويه وضعوا قطعة لحم صغيرة على الوجه. كان الرقيب يأخذ أكثر من حصة طاولة كاملة أي ثمانية عناصر، فكيف بالمساعدين وكيف بالضباط. 

وكم كنا في البدء نرى كرم المسؤولين في المدرسة حين يصرفوننا صباح الخميس وأحيانا قبل الفطور. وكنا نظن أنهم يقدرّون شوقنا لمغادرة المدرسة والذهاب إلى أهالينا، وخاصة أبناء المحافظات البعيدة، ثم نكتشف أن فطور 1500 عسكري وغداءهم كل خميس صفقة ليست قليلة. 

في حلب الخالدة التي مرت عليها عصور وعصور، وخُرّبت مرارا ونهضت مرارا، مدينة سيف الدولة وأبي فراس الحمداني، ووجهة المتنبي، مدينة البحتري وعمر أبي ريشة العظيمين.  حلب بوابة الشمال في وجه الروم. 

في قصيدته الخالدة (الحدث الحمراء) يصف المتنبي سيف الدولة أمير حلب في موقعته ضد الروم: 

وقفت وما في الموت شكّ لواقف 

كأنك في جفن الردى وهو نائم ُ

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة 

ووجهك وضّاح وثغرك باسمُ

ويصف كثافة الخيول المغيرة ووقع حوافرها المحذيّة قائلا: 

أتوك يجرّون الحديد كأنهم 

سروا بجياد ما لهنّ قوائم ُ 

هذا البيت من أجمل وأفظع ما قيل في وصف كثافة الخيل، وكثافة وقع حوافرها. يُخيّل إليك أنهم يجرّون الحديد وليس وقع حوافر الخيل. 

والأجمل هذا البيت الذي يلخص النفس البشرية : 

وتعظمُ في عين الصغير صغارها 

وتصغرُ في عين العظيم العظائمُ

ويقول في قصيدة اخرى: 

وسوى الروم خلف ظهرك روم

فعلى أيّ جانبيك تميل ُ

بعد ألف سنة لا زال هذا البيت يلخّص الوضع العربي. 

حلب بأبنيتها الجميلة التي ترتدي الحجر الأبيض. حتى البناية الحديثة يُخيّل إليك أنها من عصر سيف الدولة. وأهل حلب طيبون جميلون فنانون في كل شيء، في الموسيقا والبناء والحياة والصناعة والطبخ.

كنا في الاستراحات ننزل نتمشّى في شوارعها وحدائقها، حيث حديقة السبيل والحديقة العامة. في الحديقة العامة كان بين الحيوانات قرد ظريف اسمه سعيد، كان يعرفه الجميع، جمعتني به صداقة لطيفة وظريفة وكان يتراقص بفرح حين أقبل عليه. أداعبه وأطعمه مما يكون معي. البعض من زملائي يسألني بفضول ومزح: بماذا تتحدثان أنت وسعيد؟ فأقول له مبتسما: المجالس أمانات. 

ما أجمل أن تصادق حيوانا، فهولا يستغيبك ولا يغدر بك ولا يطعن، وقد يرمي بنفسه إلى الموت لينقذك، ويشعرك بالإمتنان مع أنك لم تقدم له شيئا مهمّا سوى الفتات وبعض الطيب. 

ما أوحش الإنسان، ليته (يتحيون).

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s