فواز خيّو
اللوحة: الفنان الفلسطيني ماهر ناجي
انتهت الدورة العسكرية وودّعنا حلب، وكان فرزي إلى لواء الرادار في قرية زبدين، في غوطة دمشق الشرقية، وتم تعييني محاسب رواتب.
كانت الخدمة في هذا اللواء صارمة جدا، وقد سبقت سمعته من خلال قائده العميد ماجد جلول، المعروف على مستوى القوى الجوية.
ما صدمني في البدء أن المجندين وصف الضباط المجندين ممنوعون حتى من المغادرة الأسبوعية، إلا في الإجازات. وأنا الطائر الحالم الجريح والقلق هل سأحتمل ذلك؟
طلبتُ مقابلة العميد فوافق، فذهبتُ لمقابلته، وزملائي ينتظرون عودتي ووجهي متورما، فدخلت إليه قدمت له التحية وطلبت أن يمنحني مغادرة اسبوعية، خاصة أن قريتي لا تبعد سوى 60 كيلو مترا عن دمشق، وقلت له: قريتي تبعد ساعة فأي إجازة أذهب إليها وليس إلى كرخانة القابون و حيث كان بعض العساكر ينسلون إليها.
وكعادته لإخافة البعض صرخ في وجهي، ولا أعرف كيف ابتسمت بدلا من أن أخاف، ففوجئ هو وتبدل الموقف وصار يناقشني، وحظيتُ بمغادرة اسبوعية، وكنت صف الضابط المجند الوحيد الذي حظي بهذا. وطوال خدمتي لم يوجه لي كلمة سيئة، وحين يخرج في جولة حيث الضباط يتقافزون في كل الاتجاهات ويختفون، ومعه رئيس أركانه العميد مروان، أقف مكاني وأحييّه، وأحيانا يتقدم ويصافحني، مما جعل العميد مروان يغتاظ من هذه المعاملة حيث هو يرتعب منه.
عام 1982 حصل الإجتياح الإسرائيلي للبنان بسبب وجود منظمة التحرير الفلسطينية في الجنوب. المنظمة التي درّبت وجهزّت مقاتليها طويلا لم تقاتل إلا قليلا، بينما قلعة شقيف بعناصرها القليلة قاومت شهرا كاملا بشكل أسطوري، واحتلها الاسرائيليون شبرا بشبر، لأن عرفات لم يكن قائدهم فيها بل إخلاصهم لفلسطين. انسحب الفلسطينيون من الجنوب بسرعة (يا اخواننا حتى ما تتدمرالثورة) وبدل الانسحاب إلى الجبال ليشتتوا الهجوم الاسرائيلي ويحفظوا أنفسهم، انسحبوا إلى بيروت حتى دمرها الطيران الاسرائيلي على رؤوس سكانها.
90 يوما بلا رحمة كانت الحمم تتساقط على بيروت، ثم رحلوا على سطح البواخر إلى تونس وأبعدت البندقية الفلسطينية 2000 كم عن فلسطين.
في الأردن منح الفلسطينيون الملاذ والمعسكرات فأقاموا دولة داخل الدولة، وأنشأوا مطارا وكانوا يخطفون الطائرات المدنية ويأتوا بها إلى الأردن مما سبب الكثير من الإحراج والمشاكل للسلطة الأردنية، وفوق ذلك أقاموا الحواجز على الطرقات تفتش الأردنيين وتضيّق عليهم، وحين تفاقم الوضع وأصبحت سلطة الدولة والملك على المحك، اندلعت أحداث ما سمي بأيلول الأسود، وعلى أثرها رحلوا إلى لبنان وأسسوا هناك ما سُمّي (فتح لاند).
غالبا في الثورات والحركات الوطنية ينخرط المناضلون بدافعهم الوطني وحبهم لبلدهم، بينما قيادتهم في واد آخر، إذا لم أقل أكثر من ذلك..
قلت مرة: المثقفون والأدباء يمهدون وينتجون الثورات، لكن في الثورة الفلسطينية العكس، هي التي أنتجت المثقفين والأدباء، الثلاثي العظيم محمود درويش وناجي العلي وغسان كنفاني وغيرهم، وربما هذا انتاجها المهم الوحيد. وعلى صعيد النضال قدّمتْ الثلاثي العظيم أبو جهاد خليل الوزير وجورج حبش ومروان البرغوثي.
***
انخرط لواؤنا طبعا في المعركة، كونه لواء رادار وكان له مراكز في لبنان، وسقط لنا شهداء.
في تلك الفترة شاهدتُ صناديق ذخيرة من الاتحاد السوفييتي عليها تاريخ 1968 على ما أذكر. نعم كان الاتحاد السوفييتي يزوّد سورية بأجيال قديمة من القذائف والأسلحة وحتى الطيران. في يوم واحد سقط لنا فوق سماء لبنان وفي معركة جوية واحدة 90 طائرة. كانت خسارة هائلة، والسبب أن صواريخ الطائرات السورية مداها أقل من 10 كيلو متر، بينما مدى صواريخ الطائرات الاسرائيلية أكثر من 25 كيلو مترا، فيصطادون الطائرات السورية قبل أن تقترب وتدخل ساحة الاشتباك.
كله مقصود، لا أحد في العالم يمكن أن يعطيك سلاحا يتفوّق أو يؤذي اسرائيل. حتى أنهم يجبرونك أن تأخذ مع كل طائرة أو حوّامة عدة سيارات زيل أو جيب واز، تماما كما كانت مؤسسة الإسمنت وقتها تجبرك أن تأخذ مع كل طن من الإسمنت كتابا من تأليف وزير الدفاع مصطفى طلاس.
في مطار الناصرية حدثنا أحد الضباط الفنيين فقال: والله أحيانا ينطلق السرب ولا ترجع منه طائرة، ورغم ذلك يتقاتل الطيارون ليأخذوا دور بعضهم ويطلعوا إلى المعركة.
من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو