من الدجاج إلى مطابع الجريدة

من الدجاج إلى مطابع الجريدة

فواز خيّو

اللوحة: الفنان الإنجليزي إدغار هانت

أنهيتُ الخدمة العسكرية عام 1985 وبقيتُ سنة كاملة أبحث عن عمل. أعلنتْ مداجن بلدة عرى عن حاجتها لخريجي ثانوية صناعية، ألحّ عليّ والدي كي أتوظّف فيها حتى لا أبقى عاطلا عن العمل. تساءلت وأنا المتخم بالأحلام هل ستكون حياتي بين الدجاج؟ مع البشر لا أستطيع التعامل فكيف مع الدجاج. 

لا يمكن للرعيل القديم من الآباء أن يُدخل في ذهنه قضية أن لك أحلاما، ومزاجا خاصا يجب أن تعمل وفقهما. المهم أن تعمل ولا تبقى عاطلا. 

إذا كان شراء أو اختيار بقرة يأخذ وقتا أكثر من اختيار الزوجة التي ستكون سيدة البيت وأم الأولاد، فهل طبيعة عملك ومزاجك موضوع مهم لهم؟

بعد كل هذا العمر وفي لحظات قاسية أرى أن والدي كان مُحقّا، لأن معاشرة الدجاج أسهل بكثير من معاشرة البشر. على الأقل تتعامل مع نمط واحد، ولا نفاق أو أقنعة أو خذلان. 

كنت أماطل والدي، حتى أخبرني قريب عن إعلان مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر، والتي تتبع لها جريدة الثورة عن مسابقة يطلبون فيها خريجي ثانوية صناعية اختصاص كهرباء للعمل في مطابعها. كانت فرصة العمر بالنسبة لي، لأني سأكون قرب الجريدة، وسأستطيع نشر قصائدي.

قدمتُ أوراقي للمسابقة وفوجئت أن الأستاذ جميل بدر الذي درّسني في الصف الثاني هو مدير المطابع والإدارة في المؤسسة، كان قد درس الحقوق وترك سلك التعليم، ثم أجرينا المقابلة، وساعدني في القبول في المسابقة.

***

في المطابع تم تعييني في قسم الصيانة، وبدأت ُ ألمس الحساسية والعداء الذي يكنه الفنيّون الذين تعلموا بالخبرة والممارسة تجاه خريجي الثانويات الصناعية والمعاهد، خشية أن يأخذوا أماكنهم في المواقع. 

اختصاصي كهرباء، والمفترض ألا أتحرّك من المكتب إلا حين يكون عطل الآلة كهربائيا. لكن كله عند العرب صابون، وحين تتعطل آلة، الكل يجب أن يذهب ويشارك في إصلاح العطل. كان العمل مُرهقا حتى الساعة الثالثة ظهرا. وفترة التنفس الوحيدة هي فترة الفطور، أو شرب كأس الشاي، فضلا عن الشحم والزيت، ولم أختر دراسة الميكانيك لأني أكرهما..

كان رئيس القسم اسمه أبو محمود، لم يتخرّج من مدرسة لكنه خبير. أول قضية لفتتني عنده أنه حين تحصل مشكلة أو حريق في تابلو ؛ نحن نصاب بذعر وارتباك في تلك اللحظة، بينما هو يقف هادئا يتأمل الحريق أو المشكلة للحظات، ثم يسارع إلى النقطة التي تُنهي المشكلة. 

جميعنا تصدمنا اللحظة المفاجئة لمشكلة، وبسبب ذعر اللحظة، وبدل من أن نتصرف بشكل سليم ربما نضغط على الزر الخطأ، أو نتسرع بردة الفعل فتتفاقم المشكلة وتتضاعف الخسارة. 

تعلمتُ منه ألّا أسمح للحظة المفاجئة أن تفقدني تركيزي وتعميني عما يجب أن أفعله. 

وفي كل القضايا المفاجئة والمواقف، تعلمت ألا أرد بشكل فوري لأن دماغي لن يعطيني صورة حقيقية للمشكلة في اللحظات الأولى. في أية قضية أو موقف مفاجئ اعط نفسك عشرة ثواني فقط، لا تتخذ موقفا أو تتصرف كرد فعل قبل عشرة ثواني أو خمسة ثواني ربما، هذه الثواني إذا لم تعطها لنفسك فقد تكلفك كثيرا، وربما سنين بسبب موقف خاطئ. 

غالبا تأتينا الحلول والمواقف الصحيحة، ولكن بعد أن تنتهي المشكلة وتترك خرابها وخسائرها.

في المطابع جميل أن تشاهد الكلمات تنطبع على طبق معدني ملفوف على محور يدور مقابلا لمحور آخر، فتخرج صفحات الكتاب أو الجريدة طازجة كرغيف عن التنور.


من دمشق إلى لبنان

من رواية «تقرير إلى غودو» (تحت الطبع) للكاتب السوري فواز خيّو

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s