أ.د. عوض الغباري
نشأ “البهاء زهير” (581-656هـ) في مصر بعد أن وفدت أسرته إليها من الحجاز، وهو طفل صغير.
وقد عاش الشاعر في العصر الأيوبي، وتأثر بالمدرسة المصرية فى الغزل، فكان إماما فيه. أما المدرسة المصرية في فن الشعر فقد اتسمت بالرقة والعذوبة وسلاسة الأسلوب، خاصة في الغزل، وشهد ابن سعيد الأندلسي بذلك، فقال:
أيا ساكني مصر غدا النيل جاركم
فأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر
فالنيل هو الذي ألهم الشعر المصري العذوبة، وقد قيل فى ارتباط عذوبة الأسلوب المصري بعذوبة ماء النيل: “ومَن عذبت مياه شربهم لطفت كلمات شفاههم”
وقد زار “ابن سعيد الأندلسي” مصر، والتقى بالبهاء زهير، واقترح البهاء عليه إجازة قوله:
يا بان وادي الأجرع
فأكمله ابن سعيد بقوله:
سُقيت غيث الأدمع
لكن البهاء اقترح أن يكون تمام البيت:
هل ملت من طرب معي
وسمى ذلك “بالطريق الغرامي”، يقصد الاتجاه الفني الملائم للغزل على الطريقة المصرية.
ويقترب الغزل المصري في شعر البهاء زهير من الوجدان الجمعي سهولة وإمتاعا لذلك الوجدان في مثل قوله:
من اليوم تعارفنا
ونطوي ما جرى منا
ولا كان ولا صار
ولا قلتم ولا قلنا
وإن كان ولا بدَّ
من العْتب فبالحسنى
فقد قيل لنا عنكم
كما قيل لكم عنا
كفى ما كان من هجر
وقد ذقتم وقد ذقنا
وما أحسن أن نرجع
للوصل كما كنا (1)
فها هنا ينساب الأسلوب السلس فياضا بالعذوبة والسهولة. وقد أشاد مؤرخو الأدب بالبهاء زهير، ووصف “ابن خلكان” شعره بأنه لطيف، وذكر ما قيل إن شعره هو السهل الممتنع(2)، وكان “ابن خلكان” معاصرا للبهاء زهير، واستمع إلى بعض شعره، وكتب ترجمته إبَّان حياته.
وتنتظم أشعار البهاء روح صوفية، تفيض روعة فى مبناها ومعناها وموسيقاها.
وقد أشار “محمد غنيمى هلال” إلى تداخل معانى الغزل، وخصائص فنه بين الشعر العذري والشعر الصوفي(3). وتداخلت معانى الغزل بمعاني التعبير عن الحب الإلهي، خاصة في شعر ابن الفارض، وقد درست هذه الظاهرة في ديوانه(4).
ويتضح ذلك الطابع الصوفي بمصطلحاته في كثير من الشعر الغزلي للبهاء زهير مثل قوله، من قصيدة عنوانها: “إمام المحبين”:
فأنا اليوم صاحب الوقت حقا
والمحبون شيعتي ودعاتي
ضُربت فيهم طبولي وسارت
خافقاتٍ عليهم راياتي(5)
ويتبين من هذا ما يكون بين الشيخ ومريديه عند المتصوفة. ومصطلح الوقت صوفي، أي عندما يتصل الحق بقلب الصوفي فلا يفكر في الماضي ولا المستقبل، ويطلق عليه صاحب الوقت الذي يسوق الخير لمريديه، ويخلصهم مما ألمَّ بهم من بلاء.
والقصيدة موضع الذكر هنا تتجلى في إهاب الغزل المشهور فى ديوان الشعر العربي، لكنها تختص بهذا التداخل بين الغزل البشرى والتعبير الصوفي عن الحب الإلهي. ويفيض الغزل عند “البهاء زهير” رقة في مثل قوله:
يعشق الغصن ذا الرشاقة قلبي
ويحب الغزال ذا اللفتات
…
يا حبيبى وأنت أى حبيب
لا قضى الله بيننا بشتات(6)
وتطَّرد أشعار الغزل فى ديوان البهاء زهير فى مفارقة بين عذوبة الحب وعذابه، وشكوى مريرة من هجر الحبيبة وتمنيات الوصال.
ويشكو الشاعر من لهيب الشوق وكتمان ذلك فى قوله:
تُرى هل علمتم ما لقيت من الوجد
لقد جلَّ ما أخفيه منكم وما أبدى (7)
ويلتقي البهاء زهير – هنا- بشاعر الغزل الرقيق، عبد الله بن الدمينة في قصيدته:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
فقد زادنى مسراك وجدا على وجد
حيث شاعر الغزل حائر، استولى الحب على كيانه، وزاده وجدا على وجد.
ولقاء الأحبة عيد في قول البهاء زهير، وقد برَّح به الشوق:
متى تتملى منك عيني بنظرة
وحقك ذاك اليوم عندي عيد
وفى سلاسة لفظ، ورشيق إيقاع يقول من قصيدة بعنوان: “ارض عنى”:
يا أعز الناس عندي
كيف خنت اليوم عهدي
سوف أشكو لك بعدى
فعسى شكواي تجدى
أين مولاي يراني
ودموعي فوق خدي
أقطع الليل أقاسى
ماأقاسي فيه وحدي
ارض عنى ليس إلا
ذاك مطلوبي وقصدي(8)
فهل هناك أجمل من هذا الشعر، وأصدق من العاطفة الجياشة تجرى في هذا النهر العذب الذي يُطفئ لظى العاشق، فلا يمعن فى دراما العاشقين!
ويتبدى الجانب القصصي في الغزل على طريقة عمر بن أبى ربيعة فى قصيدة البهاء زهير، ومطلعها:
بروحي من قد زارني وهو خائف
كما اهتز ركن في الأراكة مائد (9)
ولكن نرجسية عمر بن أبى ربيعة لا تظهر فى شعر البهاء زهير، لأنه شاعر يمضي على الطريق الغرامي المصري تعبيرا عن عاطفة الحب متفاعلة مع الذات والمتلقى ببساطة وسهولة.
ولا يعدل الشاعر بمحبوبته أحدا، كما يقول “البهاء” من القصيدة السابقة:
ولى واحد مالي من الناس غيره
أرى أنه الدنيا وإن قلتُ واحد
ويتجلى – بذلك- الإخلاص للحبيبة.
ولا يرضى الشاعر من الحبيبة غدرا، فهو عنيد فى موقفه من خيانة الحب، يقول:
واعلم بأني لا أريـد
إذا رأيتك لا تريد
…
ولقد علمت بأنني
لي في الهوى خلق شديد(10)
ويصلنا غزل “البهاء” بما شاع عند المصريين فى قوله:
تعالوا نُخَلِّ العتب عنا ونصطلح
وعودوا بنا للوصل والعَوْد أحمد(11)
فكلمة “نصطلح” “سائرة” فى موقف الصلح عند الخصام هذا فضلا عن تضمنه المثل العربى المشهور “العود أحمد” بمعنى الرجوع إلى الأحسن بعد التوقف عنه.
والعتاب تأكيد للود، كما يقول:
إذا ما تعاتبنا وعدنا إلى الرضا
فذلك ود بيننا يتجدد
عتبتم علينا واعتذرنا إليكمُ
وقلتم وقلنا والهوى يتأكد
وهذه العقبى الحميدة “للعتاب” بين المحبين يصوغها الشاعر فى إهاب بديع آسر للقلب والعقل على الطريقة الغرامية كما ذكر.
وفى إنجاز الوعد ينثال الظرف فى قول الشاعر:
سيدي قلبي عندك
سيدي أوحشت عبدك
سيدي قل لي
وحدَّثني متى تنجز وعدك؟
أترى تذكر عهدي
مثلما أذكر عهدك؟
أم ترى تحفظ ودي
مثل ما أحفظ ودك؟
قم بنا إن شئت عندي
أو أكن إن شئت عندك
أنا في دارى وحدي
فتفضَّل أنت وحدك(12)
انظر إلى قوله البديع “قلبى عندك” وهي سائرة في التعبير المصري.
وانظر إلى الاستفهامات التي تفيض رقة في التشوق إلى زيارة الأحبة، بل الحبيب فردا!، أو كما يقول:
مولاي كن لىَ وحدي
فإنني لك وحدك
وكن بقلبك عندي
فإن قلبي عندك
ويتجلى التناص، وهو ظاهرة فنية في الأدب المصري، فى قول البهاء:
لم يقض زيدكم من وصلكم وطره
ولا قضى ليلُه من قربكم سحره(13)
فهذا تناص مع القرآن الكريم، يأتى، هنا، وتورية- وهى ظاهرة أخرى فى الأدب المصرى- عن الحرمان من الحب. وتظهر الروح المرحة- تنفيسا عن عناء الحب- فى قوله:
جعلتم خبرى فى الحب مبتدًأ
وكل معرفة لى فى الهوى نكره
ويبدع “البهاء” فى التناص بالمثل العربى: ” تطلب أثرا بعد عين” فى قوله، يحلف بليلة مع محبوبته غاب عنها الرقيب:
لله ليلة بتنا والرقيب بها
ناءٍ فلا عينه نخشى ولا أثره
والتورية باسم الشاعر بديعة فى قوله:
يا روضة الحُسن صِلى
فما عليك ضَيْر
فهل رأيتِ روضًة
ليس فيها زُهَيْر(14)
ويتمثل “البهاء زهير” شعر “طرفة بن العبد” فى قوله:
دعينى واللذات فى زمن الصبا
فإن لامنى الأقوام قيل صغير (15)
مستدعيا قول طرفة:
فإن كنت لا تسطيع دفع منيّتى
فدعنى أبادرها بما ملكت يدى
وقد لامه قومه على انهماكه فى اللذات رغم فروسيته، وكذلك قامت قصيدة البهاء زهير، وعنوانها “دعينى واللذات” على مثل ذلك اللوم على اللذات مناقضة لعفته.
وربما يرجع هذا الحوار فى تبرير الشاعر لصبوته إلى ما عُرف عن تداخل شعره الغزلى، فى جانب منه، بالشعر الصوفى، مما أشرنا إليه، وكذلك فى قصيدة “غيرى على السلوان قادر”، يقول منها:
غيرى على السلوان قادر
وسواى فى العشَّاق غادر
لى فى الغرام سريرة
والله أعلم بالسرائر
…
يا ليل مالك آخر
أبدا ولا للشوق آخر (16)
وهذا الروح الصوفى فى هذه القصيدة للبهاء زهير أدَّى بنسبتها إلى عمر بن الفارض، وليست كذلك. وقد يكون التغاير فى شعر الغزل المصرى بين لذة الحب جسديا، تارة، وروحيا، تارة أخرى، راجعا إلى الشخصية المصرية التى تحب الدين والدنيا، وينطبق عليها القول المشهور:
“اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”.
فالمصريون يهتمون بشئون الدين والدنيا كليهما. والبهاء زهير مبدع فى الغزل الذى ينشئه فى مقطوعات شعرية قصيرة، لكن غزله فى مقدمة المدائح ليس له هذا الطابع الفنى للغزل كما فى قصائده الغزلية الخالصة. ذلك لأنه فى المدح يظهر شاعرا مقتدرا على قصائد طوال يتجلى فيها الإبداع بأبعاد تعزز من مكانته الشعرية فى الفنون المختلفة.
بدا اقتداره الفنى فى مدحه للملك الكامل وقد حرر ثغر دمياط من الإفرنج، بقصيدة مطلعها:
بك اهتز عطِف الدين فى حُلل النصر
وردَّت على أعقابها مِلَّةُ الكفر(17)
ومن المطولات فى المدح قصيدة بعنوان: “وقعة سار ذكرها”، مطلعها الغزلى قوله:
لها خفر يوم اللقاء خفيرها
فما بالها ضنَّت بما لا يضيرها (18)
والمقدمة الغزلية فيها مختلفة عن قصائد الغزل الخالص، لأنها مقدمة لمدح أمير كان بطلا لواقعة تاريخية. وفى مدح أمير آخر قصيدة مطلعها غزلى، يقول:
أعلمتُم أن النسيم إذا سرى
نقل الحديث إلى الرقيب كما جرى(19)
وتجرى القصيدة، كغيرها من القصائد الطوال دالة على شاعرية “البهاء زهير” واقتداره على فن الغزل فى مقدمة هذه القصائد الطوال اقتداره على قصائد الغزل الخالص فى مقطوعاته الشعرية القصيرة بمنهج فنى يناسب بين طبيعة الغزل فى هذه وتلك.
أما ما صوَّره البهاء زهير من متعة الحياة فى القصور المطلة على نيل مصر فهى الباعث على الغزليات المرحة للشاعر، يقول:
حبذا دور على النيل
وكاسات تدور
ومسرات تموج الأرض
منها وتمور
وقصور ما لعيش
نِلتُه فيها قصور
كما بها قد مر لى –أستغفر الله-
سرور(20)
ويرتبط هذا الجانب المرح والإقبال على الحياة بالشخصية المصرية التى تتسم بحب الفكاهة وسيلة وغاية لمواجهة قسوة الحياة.
والفكاهة ظاهرة الأدب المصرى، والروح المرحة تبعثها هذه الشخصية المصرية التى تخفف من عذاب الحب، وتصبغ شعر الغزل المصرى – فى جانب منه- هذه الصبغة المحبة للفكاهة، المستمتعة بطبيعة النيل الساحرة.
ويكثر الهجاء للثقلاء فى الأدب المصرى انعكاسا للشخصية المصرية التى تنفر منهم لمخالفتهم للروح المصرية خفيفة الظل، كقول البهاء زهير فى ثقيل لا يستطيع الفكاك من أسره:
ولَكَمْ أهرب منه
ولكم خلفى يجرى
ما له شغل ولا
يعرف إلا شغل سِرِّى
فمتى أخلص منه
ومتى! يا ليت شعرى (21)
وترد فى الأدب المصرى مفردات قريبة مما نستخدمه فى العامية. يتضح هذا فى الغزل متصلا بالسهولة التى انطبعت فيه من الجوانب المتفردة للشخصية المصرية، وعوالمها الثرية.
وإلى هذه الشخصية المصرية التى تالف وتؤلف يرتد هذا القول اللطيف للبهاء:
أوحشْتنى والله يا مالكى
قطعتُ يومى كله لم أَرَكْ
هذا جفاء منك ما اعتدته
وليتنى أعرف مَن غيَّرك (22)
وكذلك قولنا “الزمن دوَّار” ينعكس فى قول “البهاء” شوقا لديار الحبيبة:
متى تعود ليالٍ فيكِ لى سلفت
فهم يقولون إنَّ الدهر دَوَّارُ (23)
ومن هذا القبيل دعوة المحبين للزيارة:
شرفونى بزورة
شَرَّف الله قدركم
ونعيه لنفسه وقد مات صبابة:
مات فى الحب صبوة
عظم الله أجركم(24)
والشاعر راض بقضاء الحب، يقول من قصيدة على قافية الضاد، وهى نادرة، دالة على شاعريته:
يا كثير الصدود والإعراض
أنا راض بما به أنت راض
هات بالله يا حبيبى وقل لى
أين ذاك الرضا وأين التغاضى(25)
وللبهاء قصيدة تفيض رومانسية وشكوى من الشوق إلى الحبيبة يقول فى مطلعها:
رويدك قد أفنيت يا بَيْن أدمعى
وحسبك قد أضنيت يا شوق أضلعى
إلى كم أقاسى فُرقة بعد فرقة
وحتى متى يا بَيْن أنت معى معى(26)
وتصف القصيدة وداع حبيبته، وما انتاب قلب الشاعر من ألم الفراق.
ويختم الشاعر القصيدة بتورية لطيفة بكتاب “مصارع العشاق” بقوله:
لئن كان للعشاق قلب مصرَّع
فما كان فيهم مصرعٌ مثل مصرعى
ويحن “الشاعر” إلى الحبيبة، كما يحن إلى مصر فى قصيدة بعنوان: “حنين متجدد”، يقول منها:
ففى كل يوم لى حنين مجدَّد
وفى كل أرض لى حبيب مفارق(27)
وللبهاء زهير قصيدة فى التصوف يصدح فيها بأرق معانى الحب الإلهى، عنوانها: “سلطان العشاق” ومطلعها:
رُفِعتْ رايتى على العُشَّاق(28)
وتتجلى روح مصر التى طالما تغنى “البهاء زهير” بها، وتظهر تعبيرات أهل مصر فى مثل قوله:
تعيش أنت وتبقى
أنا الذى مت حقا
حاشاك يا نور عينى
تلقى الذى أنا ألقى(29)
أو قوله:
تُسائل عن وجدى بها وصبابتى
فقلت أما يكفيك موتى فيكِ(30)
وقوله:
حبيبى كيف غبتَ عنى
أتعرف أنَّ لى أحدا سواكا(31)
أما الحسن فقاتل بإطلاق، يسأله الشاعر أن يترفق:
يا حُسْنَ بعضِ الناس مهلا
صيَّرت كل الناس قتلى
أَمَرَتْ جفونُك بالهوى
مَن كان يعرفه ومَن لا(32)
وتفيض هذه القصيدة ببلاغة الحذف، وظرف الشاعر المصرى. وللحب عشق وعتاب ووجد وشوق أشبه بالحال الصوفى، يقول الشاعر:
تعال فما بينى وبينك ثالث
فيذكر كلٌّ شجوه ويقول
…
وما بلغ العشاق حالا بلغتُها
هناك مقام ما إليه سبيل
…
وحقِّكُمُ لم يبق فِىَّ بقيَّةٌ
فكيف حديثى والغرام طويلُ(33)
ويؤدِّى الطباق دوره البلاغى فى وصف المحبين فى اصطراعهم بين مختلف الأحوال. أو كما يقول “البهاء” فى قصيدة بعنوان: “أهواه”:
وقسا فما للين فيه مطمع
ونأى فما للقرب منه سبيل
ويحار العاشق بين الرد والقبول، ويتعب فى العتاب الرسول، أو كما يقول الشاعر:
عتابٌ دائم فى كل يوم
وحقِّكُمُ لقد تعب الرسول(34)
لقد صَحَّ العذر فى الحب، وانكشف السر، وقُضى الأمر:
يا مَن يُهدِّد بالصدود
نعم تقول وتفعل
قد صح عذرك فى الهوى
لكننى أتعلَّل
نفدت معاذيرى التى
ألقى بها من يَسالُ
لقد فاض به الكيل، فأظهر مكنون مشاعره:
وكنت زمانا لا أقول فعلتمُ
ولكننى من بعدها سأقول
ويترقرق الغزل سلسلا فى قول البهاء:
يا مَن لعبت به شمول
ما ألطف هذه الشمائل(35)
كما يبدو الغزل رقيقا فى حيرة الشاعر الذى لا يجد من يبوح إليه بما يعانى:
أما ترى فيك ما ألاقى
حاشاك أن تستحل إثمى(36)
مالى وأين الصواب عنى
أأشتكى قصتى لخصمى
أما الحب فلا رجوع عنه، فقد قضى الأمر:
غلب الوجد فلا أكتمه
إنما أكتم ما ينكتم
تعب العذال بى فى حبها
قُضى الأمر وجفَّ القلم
ويعتب الشاعر على الحبيبة إعراضها عنه، لكنه يخشى أن يصلها عتابه لكى لا تزيد فى إعراضها:
سلامى على من لا يرد سلامى
لقد هان قدرى عنده ومقامى
وإنى على مَن لا أسميه عاتب
فيارب لا يبلغ إليه كلامى(37)
والشاعر إمام الحب، لا يرى نارا أشد من نار العشق:
لا تسل فى الحب غيرى
أنا فى الحب إمام
….
كل نار غير نار العشق
برد وسلام(38)
والحبيب ماثل فى كل مكان حول حبيبه:
أنا يقظان أراه
فى قعودى وقيامى
عن يمينى ويسارى
وورائى وأمامى(39)
وتلوح روحانية التصوف، واتحاد المحب بالمحبوب فى قول “البهاء زهير”:
أنا فى الحقيقة أنتمُ
هذا اعتقادى فيكمُ(40)
ويشرق نور القرآن فى قول الشاعر:
وما فاض ماء النيل إلا بمدمعى
لقد مرج البحرين يلتقيان
وما أبدع ما قال “البهاء زهير” فى وصف الحبيبة، فى سلاسة أسلوب، وجمال موسيقى:
جمع الحسن وفيه
غير ذاك الحسن معنى
مَن له مثل حبيبى
قد حوى حسنا وحسنى
ثم يقول عن العذال:
هات حدثنى وقل لى
ما على العاذل منا
نحن لا نسأل عنه
ما له يسأل عنَّا(41)
وهل ترى أبسط ولا أقرب إلى القلب من قول البهاء زهير:
إن ذا يوم سعيد
بك يا قرة عينى
حيث أبصرتك فيه
يا حبيبى مرتين(42)
ويسأل الشاعر المحبوبة أن تترفق به، فيقول:
هوى وصبابة وقلى وهجر
حبيبى بعض هذا كان يغنى(43)
وبعد، فقد حفل شعر “البهاء زهير” فى الغزل بصور قريبة من وجدان المصريين؛ أسلوبا سهلا، وروحا تحب الحب والحياة، وأدبا بديعا معبرا عن قصة حياة الحب والمحبين.
الهوامش:
(1) ديوان البهاء زهير، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ومحمد طاهر الجبلاوى، العدد 53 من سلسلة ذخائر العرب، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، ص 261.
(2) وذلك فى موسوعة “وفيات الأعيان” راجع مقدمة تحقيق الديوان، ص 9.
(3) وذلك فى كتابه: “الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية”.
(4) عوض الغبارى، دراسات فى أدب مصر الإسلامية، دار المعارف، مصر، 2019.
(٥)-(٤٣) الديوان

الأستاذ الدكتور عوض الغبارى أستاذ الأدب العربي – قسم اللغة العربية – كلية الآداب- جامعة القاهرة. ورئيس قسم اللغة العربية – كلية الآداب سابقا. ومدير مركز جامعة القاهرة للغة والثقافة العربية سابقا -أستاذ زائر للغة العربية وآدابها بجامعة أوساكا للدارسات الأجنبية باليابان سابقا. وعضو الجمعية اليابانية لدراسات الشرق الأوسط.
له أكثر من (٣٦) كتابا، منها: «الأدب المصري من الفتح العربي الإسلامي لمصر إلى العصر العثماني». «دارسات في أدب مصر الإسلامية». «نقد الشعر في مصر الإسلامية». «مقامات السيوطي». «مناهج البحث الأدبي». «مصر في أدب الرحلة في العصر العثماني». «شعر الطبيعة في الأدب المصري». «مصادر التراث العربي». «حافظ إبراهيم؛ شاعر النيل». «محمد عبده؛ رائد الإصلاح والتنوير». «عائشة عبد الرحمن؛ بنت الشاطىء». إضافة إلى أبحاثه في الدوريات العلمية المحكمة والمؤتمرات.. نال عددا من الجوائز؛ منها: جائزة التفوق العلمي لجامعة القاهرة عام ٢٠٠٧، جائزة عبد العزيز الأهواني للتميز الأكاديمي للبحث العلمي في الأدب المصري عام 1991، جائزة طه حسين للتفوق الدراسي – قسم اللغة العربية –كلية الآداب – جامعة القاهرة عام 1977.
متميز
إعجابإعجاب