الشعيبية طلال.. سيدة الفن التشكيلي المغربي

الشعيبية طلال.. سيدة الفن التشكيلي المغربي

خالد جهاد

لا يمكننا أن ننظر إليها كنموذجٍ عادي فهي بحق أيقونة فنية وحالةٌ متفردة على أكثر من صعيد، ولم يصنع نجاحها سوى موهبتها الفطرية التي تخطت كل الحدود وكسرت كل الحواجز وأوصلتها لمرتبةٍ يحلم بها الكثيرون، وباتت حالةً تدرس لطلاب الفن ومحبيه، فبساطتها وشخصيتها العفوية والبسيطة التي تتمتع في نفس الوقت بالقوة والإصرار والثقة بالنفس هي ما جعلت فنها يجوب العديد من بلاد العالم، وليجعلها من أهم الأسماء الفنية على صعيد دولي لا تقل فيه – كالكثير من مبدعينا ومبدعاتنا – عن العظماء الذين أصبحوا مدرسةً قائمة بحد ذاتها.. مدرسة الفنانة المغربية الكبيرة الشعيبية طلال

ولدت الشعيبية عام ١٩٢٩ في البادية المغربية التي كانت أول عنصر من عناصر الإلهام التي سكنت في وجدانها، وتحديداً في قرية (اشتوكة) بالقرب من مدينة (ازمور) وكانت الطبيعة بمختلف عناصرها تلفت انتباهها وتجذبها منذ طفولتها المبكرة والتي شهدت العديد من التحولات الهامة بدءاً من الانتقال إلى العيش في منزل عمها في مدينة الدار البيضاء وهي في السابعة من عمرها، مروراً بزواجها من رجلٍ طاعن في السن وهي في الثالثة عشرة من عمرها، لتصبح بعد عامين أرملةً وأماً لطفل هو الفنان التشكيلي المغربي (الحسين طلال) والذي سيتحول بدوره لاحقاً إلى أحد أعمدة الفن المغربي.

ساهمت وفاة زوجها في ظهور ملامح شخصيتها الحقيقية وإعادة اكتشافها لنفسها رغم قسوة ظروف الحياة التي دفعتها إلى العمل كمدبرة منزل لتعيل طفلها الذي بدأ يرسم في مدرسته منذ سنينه الأولى، وكانت تشعر بتغيير سيدخل إلى حياتها لذا كانت تحافظ على قوتها وروحها المرحة حتى بلغت الخامسة والعشرين من عمرها، وبأسلوبٍ أشبه بالحكايات رأت الشعيبية نفسها في المنام تحت زرقة السماء بأشرعة تدور، وبغرباء يقتربون منها يقدمون لها أوراقا وأقلاماً.. وعندما استيقظت من النوم ذهبت مباشرةً إلى السوق وقامت بشراء الدهان الأزرق الذي يستخدم في دهن حواشي الأبواب وبدأت بالرسم فعلاً وبعد مرور ١٥ يوماً حصلت على الألوان المائية وبدأت رحلتها الفنية بين عملها نهاراً وشغفها بالفن الذي أصبحت تمارسه ليلاً، وقد اكتشف موهبتها الناقد الفرنسي المعروف (بيير كودير) والرسام الألماني (فيرنر كيردت)، وبعد أن سطع نجمها تحول بيتها إلى ملتقىً للفنانين والمثقفين ليس فقط في المغرب بل لكل الشخصيات المرموقة التي تزور المملكة المغربية، فشكلت حالةً استثنائية حيث كانت تملك ما هو أكثر من الموهبة، حيث كانت صاحبة حضورٍ طاغ وأسلوبٍ محبب وتلقائي بعيد عن التصنع والتكلف، عدا عن خفة الظل التي كانت من أهم أسباب انجذاب الناس لها كونها تجسد وجهاً هاماً للثقافة المغربية الأمازيغية، والجدير بالذكر أنها لم تتعلم القراءة والكتابة مما جعلها معنوياً تؤسس لغتها الخاصة عبر الفن التشكيلي، بحيث نستطيع تمييزها بسهولة وإن لم تحمل توقيعها، وهذا ما يجعل (موهبتها الفطرية) ذات قيمة شديدة الخصوصية فهي لم تخضع لدروس أو توجيه بل أطلقت العنان لريشتها التي عانقت إحساسها بالناس والأرض والسماء والطبيعة، وبشكلٍ عجيب وملفت يدعو إلى التوقف والتأمل في تجربتها وشخصيتها التي دخلت قلوب جميع المغاربة الذين يفخرون بها ويفخر بنجاحها كل محب للفن والإنسان.

وكان نجاحها العصامي وشعبيتها سبباً في تمهيد الطريق أمام الفنانات التشكيليات في المغرب وظهور جيل كامل مع الأسماء مثل فاطمة حسن وراضية بنت الحسين وغيرهن الكثير، أما معارضها الفنية فعرفت زخماً واقبالاً كبيراً بدءاً من المعرض الأول في الدار البيضاء عام ١٩٦٦ بمعهد غوته، لتطوف بعده بين فرنسا والدنمارك واسبانيا وألمانيا وهولندا وسويسرا، وتم اقتناء لوحاتها في جميع هذه الدول بالإضافة إلى العديد من المتاحف والمعارض والمراكز الفنية التي ضمت أعمالها ضمن مجموعاتٍ خاصة؛ في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإيطاليا ولبنان ومصر والهند وكندا وبلجيكا وهاييتي واليابان وأستراليا ونيوزيلاندا والسويد، عدا عن نيلها الميدالية الذهبية للجمعية الأكاديمية الفرنسية للتربية والتشجيع عام ٢٠٠٣ وتكريمها أيضاً داخل المغرب.

أعمالها الفنية كانت تعكس جمال روحها ورؤيتها للناس وللحياة وهو ما نلاحظه في تكرارها للوجوه والحالات المستوحاة من البيئة المغربية والأمازيغية بألوانها الزاهية وأزيائها المتنوعة وتفاصيلها المتشعبة والمتداخلة في آن، والتي نرى فيها إصراراً على الفرح وعلى استحضار مختلف عناصر الطبيعة التي تستأنس بحضورها وحضور الإنسان والحيوان من حولها، والتي قد لا تخلو في بعض الأحيان من حيرةٍ ترتسم على الوجوه بين وجودٍ فردي أو جماعي، وتعبيرٍ عن حالاتٍ خاصة جداً، وكان آخر أعمالها في (القاعة الوطنية باب الرواح) في الرباط، وكانت لحظتها لا تزال تعاني المرض مما منع حضورها في ذلك المعرض التكريمي الذي حملت لوحاتها الأخيرة رعشة أصابعها واهتزاز فرشاتها وظهر بألوان قاتمة أنبأت عن انغراس المرض في جسدها الذي أصابه الوهن، لترحل عن عالمنا الفنانة الشعيبية طلال يوم الأحد الثاني من نيسان/ أبريل/آڤريل عام ٢٠٠٤ في أحد مستشفيات الدار البيضاء، لتترك بصمةً لا تمحى، ولتتحول إلى علامةٍ فارقة بتجربتها المتفردة ليس فقط في تاريخ المغرب الحديث بل في تاريخ الفن التشكيلي المغربي والإنساني، الذي يؤكد على أن الموهبة الصادقة هي القوة الحقيقية والإرث الباقي مهما كانت الظروف، ومهما تعددت الخيبات، وهي وحدها من يحول – بالإصرار – أي كبوة إلى انتصارٍ.


الفنانة التشكيلية الشعيبية طلال
الفنانة التشكيلية الشعيبية طلال

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s