أيمن جبر
مدرسة ثانوية من أرقى وأعرق المدارس في أمريكا، خريجو المدرسة يلتحقون بأرقى الجامعات ويشغلون أعلى المناصب، وهي مدرسة للذكور فقط، صارمة وتقليدية لأنَّ جوهرها الكنيسة، التلاميذ من عائلات تنتمي لطبقات مكافحة ضَحَّت بالكثير ليلتحق أولادها بالمدرسة. يعين بالمدرسة مدرس للشعر الإنجليزي، من خريجي تلك المدرسة، وفي أول فصل دراسي يطلب فتح الكتاب المقرر ويأمرهم بأن يمزقوا صفحات الأبواب الأولى التي بها الشعراء التقليديون، يندهش الطلبة ثم يقوموا بتمزيق الصفحات الأولى في دهشة ومتعة وصَخَب. يقول لهم: كونوا أنفسكم، أطيعوا خيالكم وفكركم وافتحوا مسام الإبداع فيكم، لا تقلدوا أحدا، تعرفوا على من سبقوكم ثم مزقوا ورقتهم وأخرجوا ورقتكم أنتم، ويجب على من يأتي بعدكم أن يمزق ورقتكم بعد قراءتها، فلا تقديس للسابقين. ثم يصعد على الكرسي ومنه إلى مكتبه، ينظر من أعلى إلى التلاميذ المندهشين، فيسألهم؛ هل ترونني وترون الفصل؟ فيجيبوا نعم، فيخبرهم أنَّ نفس المنظر يختلف بحسب زاوية الرؤية والارتفاع، وأنَّه في هذا الوضع الذي يرونه بهلوانيا، يرى منظرا مختلفا وأشمل للفصل، أمرهم أن يجرب كل تلميذ الوقوف على المكتب ليرى مثله، ويلمس الفرق. يصعد كل طالب بالتتابع على المكتب وينظر ثم يهبط. وبهذا تلقى التلاميذ الدرس الثاني. الدرس الأول؛ أعرف من قبلك ثم كن أنت، وأرني قطعة منك. الدرس الثاني؛ تعرف على أكثر الزوايا ولا تقعد في زاوية واحدة تنظر منها طوال العمر. يخرج المدرس بهم إلى الملعب، حيث الهواء والسَماء والعُشْب، وبهذا ينتقلوا إلى مكان مختلف عن الفصل، يطلب من ثلاثة تلاميذ أن يمشوا معا، فسار الأول ثم حرص الثاني أن يمشي وفق خطوة الأول حتى لا تصطدم الأقدام، وهكذا فعل الثالث، ظلوا يُرَكِّزون على توافق وتناغم خطواتهم معا، والمدرس يقول: واحد اثنين واحد أثنين واحد أثنين … ويصفق، وبتلقائية يصفق بقية التلاميذ الواقفين، واحد أثنين واحد أثنين واحد أثنين. ثم قال: قف. وهنا شَرَحَ لهم الفكرة، ولكني أسبقه بشرح لوحة حَلَّقَت أمام خيالي؛ لو تخيلنا الطابور عشرة ثم عشرين ثم ألف ثم ملايين يمشون وراء بعضهم ويضبطون خطواتهم؟ ماذا سيحدث؟، في البداية سوف يكون التَكَلف والارتباك؛ ويحرص كل واحد على ضبط خطوته لتتناغم مع الذي أمامه، ثم يتعود الجميع تلقائيا على خطوة معينة ثابتة، ولنتخيل مجتمع من الملايين يمشي أفراده في طابور بتلك الخطوة الواحدة، سوف نجد المجتمع مثل قضبان القطارات الحديدية!، ما هي المساحة التي يحتلها القضبان في الأرض؟، مساحة قليلة جدا، بينما الأرض واسعة وشاسعة وحُرَّة في كل الاتجاهات، فيَتَكَدَّس ويتكعبل في سيره على الشريط الضيق. قال الحكيم روبرت فروس: هناك طريقان يتفرعان في الغابة وأنا اخترت الطريق الأقل اختيارا، لأنه الذي يصنع الفرق. قال المدرس لهم شارحا: في البداية بدأ كل واحد من الثلاثة خطوته وإيقاعه الخاص، ثم تخلى كل واحد عن إيقاعه وانتهوا إلى السير معا بخطوة ايقاعية واحدة، وبينما أنتم وافقون أخذتم في التصفيق! لماذا؟، لأن لدينا كلنا حاجة لأن نكون مقبولين ومتحركين داخل القطيع، فالتصفيق أدخلكم في إيقاعهم. اختاروا طريقكم ومساحة خطوتكم واتجاهها وتوقيتها وكيفيتها، أي فكرة تخطر لكم سوف يجدها الناس سخيفة وغبية وشاذة وكافرة، لا تتخلوا عنها قبل أن تختبروها.. لا تتخلوا عنها قبل ثبوت فشلها، لا بد من أن تكون لك بصمتك وخطوتك وفكرتك ومبادرتك الخاصة. يتأثر بعض التلاميذ به، ويقوم أحدهم بعمل متهور فيلومه الأستاذ قائلا: “لا تتهور وتقم بعمل دون معرفة النتيجة.. يكفي أنك كنت على وشك أن تخسر دروسي” ثم يدور صراع بين ولد يهوى التمثيل ويتفوق فيه ويصفق له الجميع ولكن والده يرفض، شجعه المدرس أن يصارح والده ويفضي له بكل أحلامه، يرفض الأب بقوة ويَخضع الولد ولكنه كان عميق المشاعر.. فانتحر سريعا. هنا قررت إدارة المدرسة تحميل انتحار الولد للمدرس الذي يريد التغيير، ضغطوا على الطلبة الذين حوله وهددوهم بالطرد، ضعف أحدهم وأفشى كل شيء عن المجموعة التي كانت تلتقي وتقول شعرا حرا، تم الضغط نفسيا وعاطفيا على كل طالب أمام أبيه وأمه، رضخ الطلبة تحت الابتزاز العاطفي والمادي، ثم وقعوا على مذكرة إدانة للمدرس، إلا تلميذ واحد، وهكذا يندر النبل والقوة، رفض وتم طرده.. ولا تخلوا الدنيا من الأحرار. وفي المشهد الأخير والعظيم، بينما المدرس يغادر الفصل والمدرسة مطرودا؛ ينادي أحد التلاميذ عليه ويعتذر؛ فيقبل المدرس اعتذاره ويهدئه ثم يهم بالمغادرة، فيقوم الولد بالوقوف على المكتب في مبادرة منه؛ ليقول له: نعم أنت رحلت ولكن سنتمسك بمنهجك وسننظر من جميع الزوايا، نظر بقية التلاميذ إلى هذا التحرك، فصعدوا على مكاتبهم في تتابع بعد أن تغلب كل منهم على ضَعفه.. حتى الولد الذي أفشى السر، استرد قوته وصعد، وانتهى المشهد وكل تلميذ واقف على مكتبه والمدرس المدير يمنعهم ولكن لا يقدر عليهم. وكان ختام الفيلم من أروع ما رأيت.
يؤكد الفيلم الأمريكي مجتمع الشعراء الموتى Dead Poets Society على حقائق هامة:
– مهما كان الظلام حالكا فيكفي شمعة واحدة لتزيله.. وكان المدرس هو الشمعة.
– يكفي أن يبادر واحد بالتحدي فيتشجع بقية النبلاء.. ولكن المصيبة أن يصمت الكل.
– الباطل ضعيف جدا مهما كان غشيما في بَطْشه.
– الشباب هم الأمل دائما ولكن لا يستغنى أحد عن الحكمة المتوارثة من الشيوخ.