د. حمدي سليمان
اللوحة: الفنان الفلسطيني سليمان منصور
يرجع الدكتور علي الراعي فضل التوجيه للاهتمام بجيل جديد من الكتاب والمخرجين، فقد كان مهتما بتقديم الوجوه الجديدة ليس على مستوى مصر فقط انما ايضا على مستوى العالم العربى، وكان يهتم بالدرجة الأولى بغير المعروفين خصوصا من الشباب الذين لم يجدوا من يقدمهم وكان هؤلاء الشباب يفرحون ويندهشون عندما يجدون الراعى يكتب عنهم بشكل واسع فى الاهرام، وبعناوين تلفت النظر اليهم، فقد كان يرى أن من واجبه التفتيش عن العمل الجيد وتقديمه للناس، وكان يقلق عندما لا يجد عملا جيدا يقدمه، وعندما يجد العمل الجيد يفرح جدا ثم يعكف عليه ليقراه بعد ذلك يكتب مقاله، ولم يكن يكتب عن العمل الذى لا يعجبه ولا يهاجم احدا مطلقا، ولم يكتب عن مثالب عمل ما، وكانت له نظرية اسمها النقد الجميل اى الكتابه عن ما هو جميل فقط، فهو بمثابة الجواهرجى الذى يفتش عن الجوهر الجميل فيصقله ثم يقدمه للناس. فهو يمارس النقد بأبوة حانية، إذ كان يشعر بحجم المسؤولية الملقاة على اكتافه، كان يشعر أن دوره كناقد دارس ومتخصص فى هذا الحقل الأدبى الرفيع لا يتمثل فقط فى تأليف الكتب النقدية المتخصصة والمقالات الأدبية العميقة، بل كان يشعر أيضاً أن من واجبه دفع الأقلام الشابة إلى الساحة الأدبية، فدوره كناقد كبير مخضرم يحتم عليه هذه المسؤولية الثقيلة، وفي هذا الاطار يقول الدكتور صلاح فضل أن علي الراعى كان يمثل لنا منارة فى سماء المسرح والإبداع، فهو واحد من النقاد الكبار الذين تسبّبوا في غوايتي وضلالي وعشقي لهذه المهنة العسيرة، فعلى الرغم من أننا كنا نراه دائما المتحفّظ الذي تخصص في المسرح وفاجأنا بأسراره وأمتعنا بكتاباته التلقائية العميقة عنه، ولم يسمح لأحد منا باختراق عالمه المصمت الذي يتغلف بالجهامة السمحة والحدّة الواضحة، حيث تركت تجارب العمل العام كثيراً من المرارة والحنكة على ملامحه، فاعتصم بهذا الكبرياء النبيل. إلا أنه كان يتمتع بالحضن الدافئ المتناغم الكفيل وحده بضمان اتصال عروقنا بأسلافنا ومعاصرينا الأقربين. وربما كانت الفترة الحاسمة في تشكيل وعي الراعي العروبي كانت تلك السنوات التسع التي قضاها في الكويت. وذلك لأن الانخراط في الحياة الثقافية المصرية والامتلاء بزخمها الداخلي فحسب يصبغ من يمارسه بلون من الإحساس الخفي بالاكتفاء الذاتي والانحصار داخل القوقعة الوطنية، حيث يتشكل منظوره من آلاف التفاصيل الوجدانية المنغلقة على ذاتها. فإذا ما أتيحت له فرصة الرحلة الأوربية أدرك أهمية التفاعل الحضاري في علاقات الشرق والغرب، لكن يظل جناحه العربي عاجزا، ينظر إليه باعتباره خارجاً عنه. كان لويس عوض مثلاً يعتبر الرحلة إلى بعض أقطار الوطن العربي (تدهوراً) في تكوين المثقف، لأنه لم يمر بمثل هذه التجربة الخصبة الغنية. وإن كان اللافت للنظر أن الراعي في هذه الفترة الخصبة من حياته لم يقتصر دوره على المجال التعليمي فحسب، بل تجاوزه إلى ميدانه الأثير وهو الإعلام، حيث قدم برامج ناجحة في التلفزيون الكويتي، ونشر مقالات صحفية ونقدية كثيرة، ورعى الحركة المسرحية النشطة. كان يبذل روحه وتجربته ووعيه لترشيد ثقافة الفرجة وتنميتها في هذه الرقعة العربية من الجامعة إلى الشارع مثلما فعل تماماً في القاهرة، فوحدة الوطن العربي ثقافياً حقيقة فادحة لمن يمارسها بحماس وإخلاص علي الراعي. ولعل المغامرة العروبية الأخرى التي استقطبت السنوات العشر الأخيرة من عمره، كانت في مجال الرواية، فإلى جانب عشقه الأول للمسرح، كان يهرع إلى قراءة الأعمال الروائية في تلك الليالي التي لا تُضاء فيها خشباته. ويبدو أن موسوعته النوعية الأولى قد مثلت له تحدّياً لكتابة العمل الثاني (الرواية في الوطن العربي)، لكنه عندما جال في أبهائها الرحبة، هتف بحماس شديد (المجد للرواية العربية)، وكتب يقول: لقد جعلها أفضل المبدعين فيها لسان حال الأمة وديواناً جديداً للعرب، ومستودعاً لآمال وآلام أمتنا العظيمة المقطعة الأوصال، لاتزال شعوب هذه الأمة ترنو إلى التوحد من جديد، لاتزال تناضل الحدود الزائفة ومؤامرات الأجنبي، وقصر نظر الحكام المحليين، لاتزال تستهزئ بالحواجز والكوارث وأسلحة البغي التي تحاول جاهدة الهيمنة على الشعوب، وقد استخلص التيمات الأساسية في الرواية العربية ومنها، ظاهرة انكسار البطل وفشل الثورات، التي تمثل خطا عامًا يمتد من شرق العالم العربي لغربه، إضافة إلى القهر السياسي والاجتماعي الذي يضعه على رأس قائمة المشكلات الحارة للإنسان العربي، قهر الرجال والنساء والمجتمع بحيث تغدو الحرية هي أنشودة الإبداع الحقيقي. ويحكي الدكتور صلاح فضل أنه كان يأخذ على ناقدنا الكبير علي الراعي مقالاته الغزلية في المبدعين، حيث كان يغدق عليهم بسخاء شديد عبارات الإطراء والمدح، أن كان من اختارهم يستحقون ذلك، لكنه كان يخشى مغبة هذا التدليل، ويخاف أن يتبرّمون بأي نقد موضوعي غير مجامل بعد ذلك، لكن تلك كانت عيون الراعي الحاضة المحبة للجمال والحياة.