أيمن جبر
اللوحة: الفنان السعودي عبد الله حماس
في غرفة الاجتماعات بمجلس الوزراء، انعقد المجلس بحضور أعمدة الدولة من الإعلاميين ورجال البورصة وخبراء علم النفس والاجتماع وكل من يجب الاستعانة به في مثل هذا الحدث الجَلل.
أمام الجميع شاشة تليفزيونية كبيرة ويظهر فيها الرئيس في بث مباشر، طلب منهم أن يديروا الاجتماع وحدهم، ولن يتدخل بالكلام إلا حين يجد ضرورة لذلك.
التوتر يخترق الجميع، فالداعي لهذا الاجتماع فريد ولم يسبق حدوثه في أي مكان في العالم، والعدو مثل الشبح لا يُرى ولا يُمكن الإحاطة به، شبح يرتدي طاقية الإخفاء، يستطيع أن يضرب على القفا دون مقدرة على مطاردته أو مقاومته، ويضرب من؟ السلطة!
افتتح رئيس الوزراء الجلسة سريعا بكلمات قليلة، ثم طلب من وزير الإعلام أن يبدأ بالحديث، فقال:
– منذ عدة أشهر وهناك تناقص حاد في عدد المشاهدين لكافة القنوات الإعلامية الرسمية والشِبه رسمية بكافة أنواعها، “الإخبارية والحوارية والترفيهية، والأفلام.. الخ”، والغريب أنَّ هذا الهبوط عندنا فقط، فالمتابعين من البلاد الأخرى لم ينقص عددهم، يبدوا الأمر وكأن هناك تآمر وتعمّد مقاطعة صفرية لهذه القنوات، ولو لم نُعالِج تلك الظاهرة سريعا فسوف تُصبح واضحة أمام العالم بكافة استخباراته، وسوف يتسرب القلق للدول الكبرى، فتلك الظاهرة تعني توقع لسيناريوهات تخرج عن حساباتهم، وهم لا يحبون المفاجآت، ولهذا يُخشى أن يضغطوا علينا بقرارات صعبة، أو يتخلوا عنا، وبهذا سيكون الوضع خطيرا.
نهض وزير الشباب والرياضة وقال:
– أقيمت مباريات شعبية لم يسبق للجماهير أن قاومت جاذبيتها، مثل اللقاءات الكروية بين فرق القمة، والقاءات الدولية للمنتخب، ورغم أنَّ الاستاد يتسع لمائة وعشرين ألفا، لم يحضر سوى مئات؟، ونسبة المشاهدة في التليفزيون لم تفرق كثيرا عن نسبة الحضور في الاستاد، وهي أيضا نفس نسبة متابعة التعليق على المباريات!
والذي يثير الدهشة؛ أن وسائل التواصل الإلكترونية غَلبها التعتيم على المباريات، فلم يحدث كالعادة سِباب ومُعايرة بين مشجعي الفرق المتنافسة، أو تبادل آراء عن تفاصيل المباريات.
كل شيء يصمت من حولنا ولا ندري سبب الصمت، لقد شفي الشعب من أفيون الكرة كما شفي الصينيون من الأفيون الأبيض.
نهض وزير الأوقاف وقال:
– ما سأذكره صاعقا ومن علامات يوم القيامة، فصلاة الجُمْعة في كل البلد فَرغت من المصلين وأصبحت أشبه بصلاة الظهر، بلغ الأمر أن يصلي الإمام وحده أو ببعض المصلين العجائز، هذا شيء عجيب! فأن تصل المقاطعة لشعيرة دينية، يمثل تمرد خطير وجُرأة منقطعة النظير، فلا بد أن هناك علماء مجهولون قد أفتوهم بأن صلاة الجمعة باطلة لأنها تحولت لمنبر أمني وسياسي، ولا يمكن أن يكون وراء هذه الفتوى الاستثنائية إلا شخصيات دينية لها ثقة بين الناس، والأدهى أن الكنائس أيضا أصبحت شبه فارغة، شعب الكنيسة بدأ التمرد على هذا الاستقطاب، كيف استطاع المسلمون والمسيحيون التوافق في هذا القرار الديني القوي؟
نهض رئيس الوزراء وقال:
– الشعب يقاطع ولأول مرة عادات راسخة فيه؛ لا يستطيع أحد أن يحاسبه، هذا ليس إضراب عن العمل أو غلق للمحال التجارية، هذه ثورة “زِئبقية” عاقلة وقلبها جامد ويقودها وعي يصعب الالتفاف عليه، ربما يتطور الأمر لمزيد من الإضرابات الناعمة، كرة الثلج تحركت على غفلة منا، وتكاد تفلت من أيدينا، وقد اكتسبت طاقة هائلة، ولا بد من اتخاذ قرار.
قام وزير الداخلية ليدلي برأيه في قوة وثقة مفتعلة:
– أنا أرى أن نكرر اللعبة التي حدثت مرات كثيرة، فهذا الشبح لا نعرفه ولا نعرف له كتالوج، ولكن عندنا في الخزانة صائد الأشباح، جماعات الدين السياسي، نستطع أن نُطلقها من السجون لتنجز لنا مهمة صيد الشبح، يثيروا القضايا الدينية بين الناس، ويثيروا الخلافات ويوغروا الصدور، ويعود الناس لسابق عهدهم، وبعد ذلك نُرجع الجماعات إلى خزانتهم ثانية.
هنا تدخل الرئيس وقال:
– الناس مازالت ذاكرتهم تحتفظ بالتجربة الأخيرة، فلن تَنطلي اللعبة ثانية على الشعب، ولن تترك لنا القوى الخارجية مساحة من الوقت لهذه التجربة، كما أن هذه مخاطرة قد تنقلب علينا فتفوز الجماعات الدينية بالشارع، نريد حلا سريعا قبل أن يتصرف الخارج.
وأخيرا تحَدَّث وزير الدفاع، قال:
– هناك قضية محسومة ولا يمكن مناقشتها، وأريد أن أذَّكِر بها الجميع، الجيش بأدواته وتكوينه يستحيل أن يكون أداة ضد الشعب، بلادنا ليست بلد طوائف مثل غيرها، قد نعزل طائفة أو جماعة ثم نسحقها، ولكن لو اتحد الشعب في مطالبه فلا نملك سوى تنفيذ ما يأمر به.
وهنا تحدث رئيس الوزراء ثانية ليلقي كلمته الأخيرة، وبعدها سوف يفسح المجال لأهل التخصص والأكاديميين، فقال:
– هناك مخاوف محددة يجب أن نسرع بمواجهتها قبل أن تسبقنا، فطالما بلغ الوعي والتعاون تلك الدرجة العالية فهناك احتمال كبير أن تحدث مقاطعات في لحظات تاريخية كاشفة مثل الانتخابات، أو يحدث حشد في مكان لا يخطر ببالنا، فالتعامل مع الطفل غير التعامل مع الراشد البالغ، ومن الواضح أنَّه حدث تغيير في العقلية الجمعية، بينما نحن نتوهم إحكام السلطة.
ثم قام خبير شهير في علم الاجتماع فقال:
– كان الناس يدورون في صراع متشابك حول الهجوم والدفاع عن بعض المقدسات مثل البخاري والحُدود والمعتقدات والفتاوى، صراع عنيف وحَقود ومُتحامل، وهو أشرس بكثير في حِدته من المساجلات بين المتعصبين للفرق الرياضية، وكان علماء الدين يتفرجون على ما يحدث رغم أنه ملعبهم، تركوه للعوام يتلهَّون فيه، وعندما تهدأ النيران يقوم أحد علماء الدين أو الإعلاميين الإسلاميين بالإدلاء بحديث جدلي فيثيرها من جديد سواء بالدفاع أو الهجوم، الغريب اليوم أن الكل ترك ساحة الاشتباك وهدأ ولا نسمع أي أصوات، حتى المعارك الجدلية بين السُنَّة والشِيعة لحقت بتلك الظاهرة.
وأخيرا قام الدكتور الشهير والخبير والذي يمثل العلم والخبرة والذي نادرا ما يُستدعى لمثل هذه الاجتماعات، فله جماهيرية بين الناس كشخصية نزيهة ورزينة وعاقلة، ولكنه ليس تصادميا، فقال:
– خلاصة الأمر أن الناس توقفوا عن الدوران في كل أنواع السواقي مثل الثيران. لم يعد الناس ينشرون صور الزعماء التاريخيين ليظهروا حنينهم للماضي. لم يعد الناس يلعنون مقدم البرامج فلان ولا رئيس النادي فلان!
لم يعد الثور يستجيب للرايات الملونة والكثيرة التي يلوح له بها، وتوقفوا عن إصدار رد الفعل المعروف والمتكرر. لقد كانت استجابة الناس للرايات التي نرفعها لهم، هي الهواء الذي نتنفس منه السلطة والسيطرة، تبدلت الاستجابة لصمت وسكون فتراجع الهواء وانسحب، ونخشى أن يكف عن السريان فنختنق. نحن على وشك أن نشهد سلطة بدون شعب، فالشعب حين نزع قابس الاستجابة أبطل السلطة. لا حل سوى أن نفعل مثلما فعل الإنجليز من قرون مضت، أن يحدث إصلاح متدرج من أعلى، نفتح الأبواب للنخبة العاقلة المخلصة والمرحِّبة بالتفاوض العاقل والخالي من الرغبة في الانتقام، لنبدأ من الآن تلك الرحلة، نعمل بمبدأ “سيب وأنا أسيب”، هذا الشعب غرَّنا بخضوعه الطويل، ثم انقلب علينا بحيلة لا فِكاك منها، لا بد من التحدث مع الشعب.
وانفض الاجتماع وذهب كل وزير إلى وزارته.
وبدأت رحلة التفاوض لأول مرة مع شعب ونُخبة يمتلكون وعيا وتم شفاءهم تماما من فيروس الدروشة.
اراها رؤية ادعو الله ان تتحقق…
كما الفانتازيا.. وكم من فانتازيا صارت واقعا..
بوركت…
إعجابLiked by 1 person