مئاب وائل
اللوحة: الفنان الفلسطيني نبيل عناني
نصوص لشباب واعدين في مقتبل الكتابة
جلست على كُرسي الترام، أخرجت نقود التذكرة وحاولت التملُص مِن ضجيج العالم المُحيط إلى ضجيج عقلها، أمسكت هاتفها، انهالت عليها رسالات المكالمات الفائتة مِن والدتها، إنها التاسعة مساءً، ووالدتها دوماً ما تتبنى عنوان: «خطف طالبة في الإسكندرية» عوضاً عن عنوان: «تأخر طالبة في الجامعة»
أغلقتهُ والتقطت ورقة مشروع التخرُج، فارغة سوى مِن عنوانٍ لا يُضفي عليها أي مظهر جمالي: مَن أنا؟ تسألها شخصيتها مِن العالم الموازي، عالم الماضي الذي يُرغِمُها على الالتفات إليه والتملي في كُل ثناياه، تسألها الهوية المفقودة والحلقة المعقودة مِن حياتها، تسألها كوابيسها وعروقها وجذورها الباهتة غير النابتة، تسألها الخارطة والتاريخ، يسألها ثور الشر الذي يبقى ينعر ولون الدمِ أحمر لا يستفزه.. يسألها رجل التذاكر فتصرُخ: يافا، أنا يافا! يبتعدُ قليلاً ويوضِح: المحطة الأخيرة هيَ المنشية يا هانم، والتذكرة بجنيه! تعتذر لَهُ وتُعطيه النقود وتأخُذ التذكرة.
تفركُ عينيها وتُخفي ورقة المشروع في الحقيبة، إنها محطة الهرب مِن لدغةِ عقارب الذكريات، أمسكت بتذكرة الترام الصغيرة وجلست تُشكِلها حتى استحالت الورقة الصفراء خاتماً، فنكزتها السيدة التي تجاورها بلُطفٍ وقالت: واللهِ وأصبح الجيل الجديد يكرر حركاتنا، لقد تزوجتُ منذُ خمسين عاماً بواحدٍ كهذا، أيام الطيبين على قولكُم! كانت تِلكَ الخواتم هويتنا عِندما تركنا رجالنا يشدون الرحال لحربٍ مَع جالبي الفقر الإسرائيليين، تبتسُم لها وتلتقط مفكرتها تُسجل الحديث الذي دارَ بينها وبينَ السيدة العجوز، كانت تِلكَ هيَ نصيحة دكتورة المادة لها ما إن عبرت لها بيأسٍ عن قوتها التي خارت أثناءَ التفكير في إجابة سؤال مشروع التخرُج، قالت لها إن تدوين كُل شيء سيقودها إلى حقيقةٍ ما مُطلقاً، ليسَ بوسعها تصور الحقيقة إلا كشخصٍ هارب مِن مُخيمٍ لمُخيمٍ لدولةٍ لبلدٍ وللاشئ أخيراً.
نظرت إلى خط سير الترام، لازالت الرحلة طويلة، خمسة محطاتٍ ستكفي لتُجيب على السؤال وبلا إيجاز، عاودت فتح الحقيبة وأخرجت ورقة المشروع وسمحت لسكين الذكريات أن ينحر لحظات التغافل والنسيان على مهلٍ، وتحتَ العنوان بدأت تكتُب: أنا الحقيقة المنسية بإرادة، والمُدمرة بطهارة، والمكفولةُ بألا تظل في الصدارة، أنا الطفل المكتوم فيه، المعهودُ منذُ الصّبا بألا يُسمع أنينُه وأن يتجاهل العالم صراخَهُ، أنا الحزين في ثوب الترحيل والتهجير، أنا الرحبُ الذي لم يعُد يسعني أحد، أنا الكريم الذي واروا جودَهُ قسراً، أنا الترحيب الذي أغلقوا أبوابَهُ عنوة، أنا… أنا…!
أزاحت الورقة، سمعت طنيناً في عقلها يرغمها أن تصغي لَهُ، اكتُبِي ما يجعلُكِ تنجحين، أنتِ مُعلمة تاريخ ولستِ صحفية، اكتُبي عن أي شيءٍ، عن طفولتِك، مُراهقتك، وما تتمنينَهُ لفترة كهولتك.
عاودت تكتُب باقتضابٍ: أنا صرحٌ هائِل، ولكِن مِن ورق، وورقاتي تهرُب مِني كأنَ موسم الخريف لا ينبسُ عني، ولكني جمعتُها، لم يَكُن ذَلِكَ مُحيراً لأنَ أوراقَ حياتي تتشابَهُ وتختَلِفُ عن الناس بطريقةٍ ما، وسأبدأ بتتابعٍ لكي أصل إلى التمثال الذي أنا عليه اليوم.
في البداية كُنت نُطفة كجميع أطفال الكون، ما الذي كانَ يميزُني آنذاك؟ أني كُنت فكرة، ووسيلة للصمود أمامَ العدو، فإنجابي كانَ انتصاراً للعرق الفلسطيني بأسرِه، كانَ أبي أسيراً في سجون اللارحمة، وأُمي كانت خياطة تنسِجُ لَهُ درباً مِنَ الأمل للصمود، لم أكُن أعي شيئاً وقتها، ولكني أعلَمُ أني انطلقتُ مِنَ ضائقة الأسر إلى رحابة الحياة مستقرة في رحم أمي.
تسعة أشهر مِن الانتظار، ولِدتُ بعدها على أرضٍ فيها ما يستحق الحياة لأجلهِ، بشعرٍ ذهبي كقُبة القُدس وعيون زرقاء كبحر عكا، أنارت الطفلة المنتظرة الكون، نوري شعَ ليبلُغَ البقاعَ المجاورة، في تِلكَ الليلة كانت الصواريخُ تضيء سماءَ فلسطين في غارةٍ استثنائية كما رويَ لي، عِشتُ بلقب البطلة التي صمدت وقاومت لتُصبِحَ مِثالَ إنسان لا يشوبُه نسيان وبِلا اسم لمُدة عامين، حينها استطاعت أمي بمُساعدة صديقٍ أن تُدبِرَ زيارةً لوالدي، فلم تكن زيارة الأسرى بالشيء السهل أو المعتاد، وكانت وجهتي الأولى خارج حدود المنزل هيَ لسجون الأسر، كانَ وحي اختيار الاسم الملائم كامِناً بينَ فصوص عقل والدي منذُ مددٍ، أسماني «يافا» لأني ذهبُه المسروق وحطب أشجارُه المحروق، فهكذا يرى أهل يافا «يافا» قبل أن تُسرَق وتُصبِحَ ملاذاً يأوي غصباً وقهراً أهلاً ليسوا أهلها تحتَ اسم تل أبيب، إنَّ الأسماء -بطريقةٍ ما- تشي بدور صاحبها في الحياة، ولستُ إلى اليوم أتيقنُ دوري، عُدت في ذَلِكَ اليوم طفلةً باسم ولَكِن بِلا أب..
- المحطة التالية يا حضرات..
ماتَ أبي بَعد فترة وجيزة مِن زيارتنا لَهُ، لَم أرَهُ أبداً، ذاكرتي كانت صغيرة كحجمي في المرة الأولى والأخيرة التي جمعتني به فيها أرضٍ ما، ولم نر جُثمانَهُ بَعد وفاتِه، باغتتني فكرة الموت في سنٍ صغير ولم يكُن قاموسي يحوي مترادفاً لتِلكَ الكلمة، همت في التفكير ولَكِنَ الدموع عصتني وأبت أن تبكي، كانَ الجميعُ يبكي حتى السماء، ولَكِني كُنت منزوية في زاوية التفكير عن ماهية الفقد التي تستدعي جو المقت، ولَم أملُك لهُ ولو صورة واحدة؛ لأنَ النيران التي طالت المنزل كانت مُحبة للجمال فالتهمت كُل الصور، ومَن كُنت أنا لأمنعَ النيران مِن أن ترتوي مِن عبق منبع الجمال؟
كانت النيرانُ جائعة للغاية فلم تُكفها حتى كُل ألعابي! تركنا البيت واستكملنا الحياة في آخر، كُنت أشعُر أنَّ أصوات القنابِل ما هيَ إلا مواساةٍ لفكرٍ استوقفني بأني وحيدة، وكانت أمي تقنعني بأنها تبكي دوماً لتُساهِم في ري النباتات في حال تأخر الغيث، كانَ المنزل يبعُد قليلاً عن البُستان، كُنا نزرع الزيتون والريحان والجزر هناك، وأتسابَقُ مَع أطفال الحي لنرى مَن منّا يجمع أكبر حصة في موسم الحصاد؟ كانت تِلكَ الطبيعة تُنقي الهواء مِن أي تلوث، وكانَ منظرها الأخاذ يُجبرِكَ أن تتلهي وتنسى تِلكَ الجثة، أو حتى الجثث التي رأيتها.
كُنت أحتَكِمُ في زيادة طولي إلى شجرة الجوز، كُنا ننمو سريعاً وكأنَ بنا زنبُرك، أجمل ما يميز أشجار الجوز أنها ذاتَ جذور قوية، فمِن الصَعب أن تنتزعها مِن موطنها وتقودُ بها إلى آخر، ولَكِن يبدو أني لَم يكُن لي بعد جذور مثل تلك الشجرة، عظيمة وممتدة كأوتاد لا يقوى أحد على اقتلاعها.
مرَ الوقتُ سريعاً في الحي، سريعاً لدرجة اني لم ألحظ مَتى تركناه، أو أجبرنا على تَركِه، كُنت وقتها طفلة، جميلة وبريئة، ولَكِن ما الذي كانَ يميزُني؟ كُنت باعثة على التفاؤل وناشرة لحبوب الإيجابية المتعهدة بقتل جرذان السلبية.
هُجّرنا مِن فلسطين، وكانَ عُنقي مُتجمِل بمفتاح الدار التي تركنا فيها الخيل لكي لا تموت مِن الوحدة، فالبيوت تموتُ إذا ما تُركِت وحيدة كأسيرة، إنَّ مفاتيح الدار المُعلقة في الرقابي هيَ دينٌ نتوارثُه مَع لون البشرة وفصيلة الدم، عهدٌ ووعدٌ بالعودة، أو تذكارٌ ببلدٍ المَفنَى لنا، والمنفى الأبدي لهم، كُنت أحتَفِظُ بهِ ولا أخلَعُه لأنَهُ كانَ يُضفي على نحري تميُزاً، أُغني كمُغردٍ سار، وأوهم الجميع أنَّ لا وجود للمرار، وأنَّ المسار الذي طال سيودي بِنا إلى أرض لا تحوي أطلالا.
وصلنا للبنان ببريقها الذي لا يُخفيه ستار، أقنعتني أمي أنَّ المخيم الذي نَبقى فيهِ انما هوَ أمانٌ لنا أكثر مِن بيوت لبنان نفسها، كنتُ استصعِبُ الاندماج؛ ولَكِني أجبرتُ نَفسي عَلى التأقلُم كما أُجبرت على الكثير مِن الأشياء، ماذا يفعل الإنسان إذا أحبّ البرد القارس والوحدة وقلة الطعام وبرودة الاهتمام؟ اضطررنا لترك المُخيم والانتقال إلى آخر؛ لأنَ المنطقة التي كُنا نقطُن فيها خُصصت من أجل مشروع استثماري، تعلمتُ أن أعتادَ كُل شيء إلا الرحيل، لكني رحلت، وتوجهنا إلى مٌخيمٍ آخر يبعُد كثيراً عَن الأول، لِذا تركتُ المدرسة التي كُنت أرتادُها حينها وتوجهتُ إلى أخرى، وابتاعت لي أمي دراجة، فكانت المسافة التي أقضيها مِن البيت إلى المدرسة تستغرِقُ حوالي عشرَ دقائق.
- عشر دقائق ويصل الترام إلى المحطة التالية.
أتاها الصوتٌ مِن شابةٍ لا تَعلُم مَتى صعدت أو ركبت بجوارها، قررت أخذَ هُدنة تُمثِل حياتها في تِلكَ الفترة، أغمضت جفنيها تحاول جمعَ جميع الأوراق ليكتَمِلَ التمثالُ، ثم عاودت فتحهما ورُكاب المحطة الثالثة يقفزون للترام، وها هيَ ذكرياتها تنسابُ بلا جُهدٍ إلى عقلها المحموم.
لم يَكُن المُخيم الجديد يختَلِفُ كثيراً عَن الآخر، كانت الجُدران التي تحاوِطهُ شاهقة أكثر قليلاً، وكُنا الغرباء المستجدين، وليسَ بوسع الغريب إلا اختراع ألفةٍ ما، كانَ أسمى سببا للصداقة التي جمعت بيني وبينَ وئام، ولدت وئام في المُخيم ولم تألَف مكاناً غيره ولم تُرِد سوى أن تنتمي لمكانٍ يغايره، كانت عيناها زيتونية فكُلما نظُرت إليها تذكرتُ طعم الزيتون الذي افتقدتُه، كُل شيءٍ يخُص الزيتون كانَ رائعاً، موسم حصاده الذي يأتي مُرافِقاً الربيع، وطعمُه الذي يقضي على فتور طعم الجبنة المالِح، وأشجارُه التي نستظِلُ بها وننسُج بِها حكايات تُبارِز الإلهام أكثر مِن أشجار التفاح، وكذَلِكَ كانت وِئام، كُل تفاصيلها تجبرك أن تذوبَ فيها بمحض إرادتك، كُنا نتسابَقُ بالدرجات مِن وإلى المدرسة، وكُنا نبتاعُ أغراض أمهاتنا سوياً مِنَ السوق، ونلعَبُ بالحصى عوضاً عن الدمى، تشابهت ملامِحنا بدافِع الألفةِ بيننا، واكتسبنا عاداتنا سوياً، كُنا نقرأ ونغوصُ في بحور الخيال، أطلقنا على كُلِ مكانٍ زُرناه اسما خياليا مِن وحي فترة مراهقتنا، عِشنا تجارب عديدة سوياً، كانت أولَ مرةٍ أتمَلصُ فيها مِن المدرسة برفقتها، وعُمري وقتها ستة عشر، جُبنا أحياء المدينة كُلها، كُنت أضحك وكُلما تسرَبَ القلق إلى داخلي تدفعُني لأن أجرب شيئاً جديداً يرفَعُ مِن مستوى الأدرينالين لديّ ومِن مقدار حبي لها، كم مرة فعلنا ذَلِك؟ لا أذكُر، مراتٍ عديدة سرقنا فيها لحظات مُتعة وفرحة مِن الحياة التي سرقت مِنا سنواتٍ غضة، كم مرة تمَ اكتشافنا؟ ولا مرة، لقد نجونا بفعلتنا وجريمتنا الحلوة في كُل مرة، بِمَ كُنت أمتازُ في سنوات المراهقة؟ كُنت طموحة وواعدة، ولَكِن صدقاً أكثرَ ما كانَ يميزُني هوَ صداقتي لوئام، لقد اشتهِرنا في كُل المُخيم بالثنائي المرح، وقد كانت هيَ كذَلِكَ مميزة، كانت جريئة وطموحة، كُانت تقضي وقتاً طويلاً تتحدث عَما نتخيلَهُ لمُستقبلها إذا قضت الليلة في خيمتنا، كانت تَحلُم بأن تهجُر المُخيم، ألتفت إليها مندهشة أسألها إلى أين؟ تقول إلى مصر، واستنكِرُ قائلةً: وتترُكيني؟ فتُهدئني وتقول: تأتينَ معي ونُقيمُ سوياً، فيروقني الجواب وأعاود مستلقيةً أسألها: ولِمَ مِصر وليسَ أوروبا؟ فتُجيب بلا تردد: لكي أشرب مِن النيل، ويقبَل عهد الانتماء بي أنا الضائعة، وأعود لَهُ كُلما ابتعدت أو قذفتني تيارات الحياة، فأسألها: ولَكِنَ ألا تخافين أن يرفض النهرُ عهدَ انتمائك وتتسممين فتموتين؟ فلا تطولُ نظرة احتقارها لي على إفساد اللحظة ونضحَكُ حتى تصرُخ بِنا أمي لننام.
كانت وئام تقضي معي مُعظم الوقت، ندرُس سوياً، نقرأ، نضحك، نتحدث، نبكي، نتحاور ونتشاجر ونتصالح ونكرر السيناريو، كانت تحدُثني عَن قريتها التي لم ترها أبداً وحكت لها أمها عنها، ونتخيلها سوياً، وكُنا نحفَظ الأغاني الفلسطينية عن ظهر قلب ونُغنيها بلحنٍ جديد يتغير حسب موقعنا، حتى أغاني فيروز والست أم كلثوم لم تسلم مِن تحريفاتنا، أذكُر أغاني فيروز التي جعلتنا نقرأ عن الإسكندرية، وشط اسكندرية، كُنا ندون كلمات الأغنية على شجرة الصفصاف ونهيمُ مُتخيلات، وأقرت وئام أنَّ الإسكندرية وجهة لا يُمكِن الحياد عنها بَعد البصرة وحيفا والرباط والصوفة، ولقد كُنا مُشاكساتٍ في المدرسة، لم نَكُن مِن مُحبات الصوت الرقيق الخجل والصمت عند التعرُض للإهانة، كُنا نرُد الصاع صاعين! تعلمتُ مِنها أنَّ أكون قوية، كانت تردد على مسامعي أني إذا لم أتحل بالقوة أو أتظاهر بِها فسوفَ يأكلوني ودونَ تسمية.
كانَ مِن الصعب على أبناء المخيم عيش حياة هادئة في المدارس اللبنانية، فمفهوم «التنمر» الذيَ اشتهرَ بعدها، هو طريقة المعاملة الطبيعية والمتداولة مَعهم، ويعتاد المرء، ولَكِننا أقررنا مفهومنا الخاص واكتفينا بِمَا أجبرنا أنفسنا أن نعتادَ عليه، كانت حياتنا مَع ما تحمِلهُ مِن قسوة، جميلة، ولقد كُنت أحبها، رُبما لم أشعُر قط أني أنتمي إلى المُخيم، ولَكِني شعرتُ بالأنس لمَن شاركوني حياته، ولا أعلَمُ لماذا كُل الأشياء الجميلة محكومُ عليها بالانتهاء، والأسوأ أنها تنتهي بِلا إشارة أو تحذير، أهنالِكَ أسوأ مِن أن ينسابَ البرد إلى عروق قلبِكَ أنتَ الذي ظننتَ أن دفء السنين دوماً سيعمُل كحاميه؟
في تِلكَ الفترة بدأ الإسرائيليون الولوج إلى الأراضي اللبنانية، كانت الحربُ في ذروتها في فلسطين فلم نُفكِر بالعودة، كُل الأماكن تقذفنا فلم نُفكِر بالهرب، كانت القيادات تتعارك ولَم أكُن خبيرة سياسية أو محللة استراتيجية لأتبينَ قوات العراك والتحالف، الحل الأمثل هوَ التجاهل، لقد تجاهلتُ أنا ووئام كُل شيء، واستكملنا حياتنا كأنَ شيئاً لا يحدُث، ولَكِن كُل شيء كانَ يجبرنا أن نلتفت وأن نُمعِن النظر، الطُرق إلى المدرسة مليئة بأناسٍ نيام، على الأغلب نومتهم الأخيرة، العديد مِن الأمكنة مصبوغة بلون الدم.
وعادَ هاجس الفقد يسيطر علينا، كُنا نسمَعُ قصصاً حزينة، يتغيبُ عدد كبير مِن الأطفال اللبنانيين وليسَ أطفال المُخيم وحدهم، وتعتري وجوه الأساتذة كآبة غير مسبوقة وكأنَ جميع الطُلاب لم ينجحوا، كانت الأجواء مشحونة بتعاسةٍ يصعُب إخفاؤها، ولكِني مَع وئام استمررنا في مضمار لعبة أنَّ كٌل شيءٍ بخير ولا ضير، أوصانا أهلنا أن نلزَم مبنى المدرسة وألا نخرُج حتى للساحة؛ لأنهم لن يفكروا في قذف مدرسة أطفال بالطبع، لَم يكُن لديهم علم بجولاتنا الصغيرة والكثيرة في أنحاء المدينة، اختلسنا نظرةً إلى بعضنا وأومأنا موافقتين، هربنا مِنَ المدرسة بعدها خمسَ مراتٍ، لقد كانت أربعَ رحلاتٍ مُرعبة، بلامبالاة المراهقة كُنا نستمتع، ولَكِن في كل مرة لا تسلم الجرّة، لقد هربنا مِن المدرسة ولَم نَعُد أبداً، فقد اخترنا الوقت الخطأ لنتجول، أو رُبما المكان، أو رُبما كانت المُشكلة بِنا نَحنُ.
كانَ هَذا أول يومٍ تضرَبُ فيهِ إسرائيل منطقةً سكنية، الجو يُمطر بشدة كأنَهُ تنبأ بملحمة الحزن وبدأ العزاء سلفاً، كُنا نأكُل البوظة ونضحَكُ على الرعشة التي تصيبُنا في هَذا البرد، وبدأت السُحب تضُم الشمس وتخفيها عن الأنظار تدريجياً، فبدأتُ أركُض مَع وِئام عائدتين إلى المدرسة متأسفتين عَلى النزهة التي انتهت باكِراً، كُنا نضحك سوياً بشدة كُلما غاصت قدما إحدانا في بركةٍ مِن الماء، وتحولت فجأة برك الماء إلى برك دمٍ، وأخذت أصوات القذائِف تعلو فوق ضحكاتنا، وقفنا نحاول التقاط أنفاسنا، كانَ الرُعب جاثماً في مُقلتينا، لم ننبس ببنت شفة، أمسكنا أيدي بعضنا وأطلقنا أقدامنا لتُسابِق الريح وتحاول الوصول إلى أي شيءِ يحمِلُ طَبع الأمان، ولم نصل، سمعتُ صوتَ قذيفة قريبة للغاية مِني ولَكِني لم ألتفت، شددتُ على يد وئام لتطمئنني، كانت يدها باردة للغاية فالتفتُ أتجرعُ مِنها بصيصَ أملٍ، ولَكِني لم أجدها، كانت يدها معي ولَكِنها لَم تَكُن، عُدت إلى موقع انفجار القذيفة، اشترطنا على بعضنا ألا يفرّقنا شيء حتى السفر، وضحكَ مِنا الموتُ!
كانَ عرض القذائف والانفجارات مُستمِرا حولي ولَكِني لَم أكُن آبه به، بكيتُ وقتها على بطل كُل قصة، وعلى كُل شهيدٍ، وعلى أبي، وفقدتُ وعيي بجوارها، كانَ عقلي الباطن يدفعني لأن أموت معها، ويُخلدنا التاريخ أولا يفعل، المُهم هوَ أن نبقى سوياً، صديقتان للأبد، أن نترك أو نتمسَك، أن نرحل أو نبقى، أن نموت أو نُخلّد، لا يُهم ما دامت ألف الاثنين تجمعنا، لا أعلَمُ ماذا كانَ أقوى مِن عقلي الباطن ليجعل يدي تريد أن تُفلِتُ ذاكَ الحبل، حبل الحياة، وتستمتع بعالم الأموات الذين نغبطهم على كُل تِلكَ الراحة، فتحتُ عينايَ بينَ أسّرة كثيرة، كانَ شرشفي الوحيد هوَ الأبيض تماماً بِلا بُقع دماء، يخالجني أمل أنَهٌ ليس سوى كابوس وولى، بُكاء أمي وتقبيلها لراحة يدي كُل هذه المرات وسجدة الشُكر المطولة كانت توحي بأني نجوتُ مِن شيءٍ هائل، ولَكِني واقعاً لَم أنجُ، أبداً، لم أنطق، عُقِدَ لساني وبهتت كُل حروف أبجديتي، قالت أمي إنها آسفة للغاية لأنَ وئام لم تنجُ، وكأني أنا نجوت!
حضرنا الجنازة، تِلكَ هيَ المواقف التي تكونُ فيها الحياة نقمة ومؤذية وبِلا معنى، كُنت أبكي ولم أكُن ألحَظ ذَلِك، كانَ الحضورُ غفيراً، وأنا اتأمَلُ الكفن الأبيض كقلبها، لَم أكُن أود التفكير في الأشلاء التي رأيتها يومَ الحادث، أصررتُ على تخيُلها بجسمها المتناسق تبتسِمُ كما كانت تركُض بجواري، كانَ مِنَ المفترض أن ينتهي الألم بانتهاء الجنازة، لِمَ رافقني وتركتني جالبة الأمل؟ ناولني ولد صغير يجلِس على رجل والدته منديلاً، لم ألحظ مُجدداً أني أبكي، ابتسمَ وقال: لا تبكِي حتى وإن كُنتِ جميلة وأنتِ حزينة، ابتسمتُ بملء فمي.
- المحطة الرابعة يا حضرات..
أوشك الترام أن يقلني إلى وجهتي، وأصِل إلى شكل التمثال المتكامِل، لقد تعبت ولَكِن عليَّ أن أُكمِل:
بَعد الحادثة، كَرِهتُ المُخيم، كَرِهتُ كُلَ شيءِ فيه، وكَرِهتُ المدرسة، كرهت كُل شيء لأنَ كُل شيء كانت تُشاركِني فيهِ وئام وما عادت وئام موجودة، إنها الحاضرة الغائبة، وغيابها يقتلني، ينحرُني ويجعلُني أتآكل، كُنت أريد الهرب، حادثتُ أُمي مِراراً أني أريد السفر إلى مصر، لَم يكُن يعنيني حلم دراسةٍ أو شهرة أو أي شيء، ولَكِني كُنت أشعر أني لو سافرتُ إلى مِصر سأكونُ أقرَب إلى وئام، كانت أمي تُفكر بالسفر إلى الخليج، ولصعوباتٍ واجهتها سعدتُ بِها مِن قلبي، لم نستطع السفر لهناك، فاستجابت لرغبتي وسافرنا إلى مصر، شعرتُ أنَّ القاهرة تستقبلُني بترحابٍ شديد وتضمُني ضمة الحرف لحركتِه، في أول يومٍ لي شربتُ مِن النيل، شربتُ ماءَ نهرٍ في وقتٍ ما، ولَكِن ماء النيل كانَ طعمُه مُختَلِفاً، ولم أتسمم، فيبدو أنَهُ وافقَ على ميثاقِ الانتماء، كانَ ليسعد كثيراً لو أنَّ وئام هيَ التي قدّمت لَهُ هذا لميثاق.
لم تطُل اقامتنا في القاهرة، اذ كانَ مِن الصعب أن ألتحق بإحدى جامعات القاهرة، لم تُكمِل أمي سؤالها عن الوجهة التي يجب أن نتوجه لها لأجيبَ بلا تفكير: الإسكندرية! كانت تطاوعني على مضضٍ لأنها رأت أنَّ الحياة كسرت خاطري بِما يكفي، وأقمنا في الإسكندرية، والتحقتُ بكُلية الآداب، وسعدتُ فيها، لقد كانت الإسكندرية أجمل وأبهى مِن كُل وصف القصص الذي قرأتُه مَع وئام، كانت فاتنة صيفاً وشِتاءً ومليئة بالحياة ليلاً ونهاراً، في البداية كانت أمي تُصّر على إيصالي واصطحابي يومياً مِن الجامعة، أما الآن، وفي عامي الأخير، تركتني أُلاقي زحام الترام وحدي، كانت تعتَرِضُ على حُبي للترام وأني دوماً أركبُه على بطئه، ولَكِنَهُ كانَ ملاذي مِن الأفكار المتخبطة، كُنت ألجأ إليه لأتأمل الناس، وأهرب مِن معناتي إلى جزء المعاناة التي يروونها وهُم جالسون جواري، السيدة العجوز التي تشتكي مِن غلاء الباذنجان والكوسة، والمرأة اللطيفة التي سأمت مِن ابنها العازف عن الزواج وتبحَثُ لَه عَن عروس، والطفل الواجم لأنَ كابتن التمرين جعَلُه مهاجماً بَدلاً مِن مُدافعاً، والشاب الغاضب لأنَ فرِيقَه خسر المباراة، ورجل التذاكر الذي يهونُ على كُل هؤلاء بنكاتٍ ممزوجة بألمٍ في كثير مِن الأحيان، والذي يُعلن الآن أنَّ هذه هيَ المحطة الأخيرة..
- المحطة الأخيرة يا حضرات..
أنظُر في ورقة المشروع، لم يعُد بها رقعة بيضاء، ألملم أغراضي ويساعدني رجُل التذاكِر بِسرورٍ، أنزِلُ مِن الترام وأسيرُ إلى المنزل، أبتَسِمُ لأني أنهيتُ المشروعُ، أنظُر إلى التمثال الذي جاهدتُ في جمعِ وريقاتِه وأرى مناطِق لازالِت فارغة فيه، أجزاء أنا على يقين أنّ الغربة هيَ مِن نهشتها، كُل الأوراق التي اعتصرتُ مُخي لجمعها لم تقدني حقيقةً إلى حقيقة مَن أنا؟ وما هويتي؟ وإلى أينَ أنتمي؟ أكابِدُ دمعي وأستقلُ المصعد لأجد أمي واقفة عَلى بابِ الشقة والريبة على وجهها، كُنت أتوقَعُ أعاصير مِن التوبيخ، ولَكِنها عانقتني بشدة، شعرتُ بأني لا أريدها أن تَفُكَ أسري وتتركني، وفكرتُ لوهلة أنَّ هذا هوَ مفهوم الانتماء، الحُب والتعلق الشديد بِلا رغبة في الترك أو الرحيل، قبلتُها واتجهتُ سريعاً إلى غُرفتي، أخرجتُ ورقة المشروع مجدداً، وأكمَلتُ الكِتابة.
أتأمَلُ مُجدداً، مَن أنا؟ أنا الجزء الشائك مِن الوردة، والجزء الحقيقي مِن الخيال، أنا الصامدة، أنا المعافرة، أنا المتمسكة بأمل العيش رغمَ كُل شيء، أنا لستُ كُل التاريخ ولَكِني أنا التي أحاولُ تدوينَهُ.. و ليست لي هوية محددة، أنا أحجية، وقطعي موزعة على البلدان كالحنان، ليست لي هوية محددة لأنَهٌ كما قالَ درويش: «الهوية هيَ ما نُورث لا ما نَرِث، ما نختَرِعُ لا ما نتذكر» ولازالَ دربي طويلاً لأخترع ما سأورثٌه، وصِدقاً أنا لا أنتمي إلى دولة محددة، أو مكانٍ مُحدد، أنا أنتمي لحي طفولتي، أنتمي لبستان فلسطين وأشجار الجوز والزيتون، أنتمي إلى وئام، أنتمي إلى النيل، أنتمي إلى عناق أمي، أنتمي إلى جلسة الترام التي لا أكلَّ مِنها ولا أملّ، أنتمي إلى أصدقاء الجامعة، وأنتمي إلى التاريخ.. أنا بإيجازٍ: الحياة بجمالها وتعقيداتها.
الصراحه القصه جميله جدا مستوى الكتابه متقن وقراءه القصه بجمال الألفاظ كان آسر !
إلى الأمام يا مئاب
إعجابإعجاب