القهوة حالة صوفية

القهوة حالة صوفية

اللوحة: للفنانة الإسبانية نوريا سالسيدو (رسم بالقهوة)

حنان محمد شبيب

 نعم هي كذلك حالة حب صوفية، لها طقوسها وتجلياتها العميقة. بخارها الأنيق الضبابي المتصاعد يؤدي رقصة الشفافية الروحية، فمن الهيام إلى الأحلام.. جلاسها يتساقون الود والمحبة بها، ويقرؤون عيون الشغف.

ترتشف بوقار.. رشفة في إثر رشفة.. كي تحلو الأحاديث وتطول.. وتشق لها دروبًا في منحنيات الذاكرة.. 

يا لعطر الذكريات.. المعتّق.. والمعبّق.. مزيجٌ من وردٍ وفُلّ وحَبَقٍ.. وحب.

عندما كنت طفلة كنت أحضر مجالسها النسائية – حيث كانت حكرًا عليهن – من بعيد، كنت أراهن بعد الانتهاء من شربها يقلبن الفناجين بعد تدويرها وخضها، دفعني فضولي لمعرفة السبب، وعرفت.. هي رسمات ترسمها بقايا البن داخل الفنجان ليحاولن تفسيرها بعد ذلك.. كان الأمر مجرد تسلية بحتة.. كل واحدة منهن تقرأ فنجان الأخرى.. كان مجالًا للترفيه وتطويل الجلسة.. وفي نهاية قراءة الرسمات تضع كل جليسة إبهام يدها اليمين في كعب الفنجان وتبصم ليظهر رسم جديد كن يسمينه (الضمير) بمعنى أن تضمر الموقعة شيئًا ما في نفسها لترى مهارة التي تقرأ لها الرسم.. فإن دارت حول الموضوع تكن ماهرة.. وإلا.. فلا.. الماهرة فعلُا من كان خيالها واسعًا وخِصبًا.. ولديها علم بالنفوس حصلته من المعايشة والتجارب.

لم يكن يسمح للبنات بشرب القهوة إلا بعد عمر معين تحدده الأمهات (ما أجمل ديكتاتورية الأمهات).. لذا كان أول فنجان قهوة احتسيته.. في بيروت في السنة الجامعية الأولى، ما زال طعمه ملء رأسي، وما زال مندسًّا في مفاصلي، وهكذا طعم البدايات الجميلة والمؤثرة.

 كم كانت بيروت جميلة في ذلك الزمن! مليكة المدن، وأميرة الثقافة، كان للقهوة فيها مذاق مختلف، وكان الأستاذ ظافر القاسمي – رحمه الله – يلقبها هي والشاي بخمر المؤمنين، المهم أنني في بيروت أحببت أن أجرب نفسي في قراءة الفنجان مع زميلاتي في سكن الراهبات في الرملة البيضاء، وجدت الفرصة سانحة فكلهن يفتقدن ذويهن وأنا منهن.. (ما أثقل نون النسوة على قلبي وعلى قلمي) وبدأت رحلتي مع القهوة ارتشافًا وتأمّلًا في رسيماتها، فالقهوة تجيد رسم وكتابة ما لا يجيده الرسامون والكتاب، إنه سحر القهوة وإبداعها.

 لم أكن أقرأ الرسمات فقط، كنت أقرأ الوجوه، وأسمع نبضات القلوب، وأتابع حركة العيون، كانت إحداهن ترجو أن يكون الفنجان قد أحس بها، وهي تتبادل معه الحديث عندما كانت تحتسي القهوة، وترجو أن يصور حالتها بصدق.. يا لدلال الفنجان وهي تهدهده وتتأمله! وتدفعه إليّ.

مقهى (ال كو كو دي) على طريق مطار بيروت شهد أول فنجان حب عابر للحدود بين قلبين لبناني وسوري؛ (أنا وأبو محمد) آه لو ترك المسؤولون للحب دور ترسيم الحدود لما بقيت حدود ولا سدود.. 

في نيسان من سنة ١٩٧٥ اندلعت الحرب الأهلية في لبنان ولم أكن قد أنهيت عامي الأول في الجامعة.. وصار للقهوة مذاق آخر.. وتوحدت رسمات الفناجين.. والأسود الفاحم سيد الألوان.. كنا نشربها ونغص فغالبا ما كان يعترضها الدمع الأجاج.

رغم الأوضاع القاسية ظلت القهوة سيدة الصباحات والمساءات والأصائل.. ولكن على وقع أصوات القذائف، وإيقاع زخات الرصاص.. اختلفت أحاديث القهوة.. 

فالواقع الجديد فرض نفسه.. بعد مدة ألف اللبنانيون الاشتباكات وصاروا يتابعونها من شرفات منازلهم، وكأنهم يتابعون مسلسلًا طويلًا.. في هذه الأثناء تمت خطبتي وتزوجت وانتقلت إلى سوريا، أمي حينها – رحمها الله – عدت انتقالي للعيش في سوريا موت زؤام.. 

رافقني فنجان القهوة إلى هناك فالانغماس في القهوة لا حل له.. هناك حدث ما لم أتوقعه.. ما دمت لبنانية فهذا يعني أنني أقرأ الفنجان.. هذا ما رسخ في أذهانهن.. 

وكانت الواسطة أمه (أم زوجي) رغم محاولاتي معها وكان الكلام الأخير.. 

– يا عمة.. هؤلاء يصدقن ما أقول.. سوف لن أجالسهن بعد اليوم.. قامت قيامة أبي محمد إذ عرف بالأمر وأرعد وأزبد وأقسم أن لا قهوة تشرب في البيت ولا فناجين توجد إذا استمر هذا المسلسل.

 انتهى المسلسل والحمد لله وابتعد شيطان القهوة، وبقيت القهوة ببهائها وقوة سلطانها فالقهوة تشرب في الأفراح وفي الأحزان (مبروك.. والله يرحم) لا تحلو الجلسات إلا بها.. ثم رافقتني إلى الكويت.. وباتت قهوة أم محمد لا تقاوم.. حتى أنني فكرت في فتح مقهى مميز يفوق (ستاربكس) الذي يبيع ماء أسود مرًّا.. و(سينابون).. وغيرهما.. حيث سيكون الأدب حاضرًا بشعره ونثره وما زالت الفكرة قائمة..

 بعدما توقفت الحرب في لبنان لتشتعل في بلاد أخرى – وحسبنا الله ونعم الوكيل – عادت أمي إلى القرية وعاد أهل القرية ليبدؤوا رحلة الحياة فيها من جديد.. لقد فقدوا أحبابًا جراء هذه الحرب اللعينة.. وفقدنا نحن على صعيد الأسرة شخصية ستظل روحها تحوم حولنا ما حيينا.. وستظل صورتها في فنجان قهوتنا عندما نرتشفه أمام بيتنا، صورة الأب العظيم.

لكن أمي ظلت تعشق القهوة لأنها ترتبط بالضيافة والعراقة.. كانت ترد التحية ب.. (تفضل اشرب قهوة) وأختي عفراء رفيقة أمي وصديقتها الدائمة في جلسات قهوتها وكانت هي من يحضر القهوة.. وكانت تصر أن تشرب مع كل ضيف.. لم تنس أمي أنني كنت أحتال وأقرأ الفنجان فكانت تخضه وتقلبه وتعطيني إياه بابتسامة كأنها قطعة من قمر – (شوفيه)

– ماذا تريدين أن أرى يا أم؟ لم أعد أعرف.. يقولون إن النظر فيه وقراءته حرام.. يا أم.

– (لا.. أنا مارح صدقك.. مانو حرام).

أفتت أمي بعدم حرمته.. ما أحلاها أمي عندما تفتي. 

– (طيب.. عندك يا أمي حديقة حلوة وهذه أنت تشمين ورداتها.. وشوفي هالاجتماع.. ما أحلاه عم يشربوا قهوة وأنت معهم.. وهون أنت رافعة ايديك وعم تطلبي من ربك.. 

– (اي والله عطول بدعيلكم..)

أمي لم أقل لك أنني رأيتك في الجنة، في الفنجان وفوق الفنجان تنعقدين مع البخار المتصاعد، وفي الأحلام وفي رسمات الخيال، فهنيئًا لك أيتها الشهيدة.

3 آراء على “القهوة حالة صوفية

  1. ما احلاها الام حين تفتي
    رحم الله أمك وأمهاتنا الأحياء والأموات منهم .
    نص جدير بالقراءة.

    إعجاب

    1. شكرا لكم أستاذة هيام ..شكرا على قراءتك وتفاعل وتعليقك الأنيق..سعيدة بكم عزيزتي.

      إعجاب

  2. نص رائع وموضوع شيق.. شكرا أستاذة حنان شبيب على هذا السرد الأنيق.. ذكرتيني بأشياء ومواقف تحمل عبق الطفولة.
    تحياتي ومودتي.

    إعجاب

اترك تعليقًا على حنان شبيب إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.