اللوحة: الفنان النمساوي مايكل باشر
دعاء صابر

في يوم تمنينا لو لم تطلع له شمس، ظهر دجال ذو حصانة على قنوات الأخبار ينذر بحدث جلل ليس لأحد سواه علم به.. مر شهران والرجل يظهر في برامج حوارية متعددة يشوق الناس للشيء الذي سيعلنه، وكلما ضجر الناس وظنوه «فنكوشا» يقوم بتحديد تاريخ معين للإدلاء بالخبر الذي سرعان ما يتم تأجيله من قبل الجهات المختصة، ثم جاء اليوم الذي أغلقت فيه جميع قنوات التلفاز وتبقت قناة واحدة فقط، بدأت عدا تنازليا لعرض حلقة ذلك الدجال.
في تلك الليلة جلس الجميع يحملقون في العد التنازلي المعروض بشاشات التلفاز حتى وصل منتهاه.. الآن يُكشف السر! أعلن الدجال عن كونه نبيا أُلقي عليه كتاب! عند تلك اللحظة كاد الناس يهشمون شاشات التلفاز، لكن الرجل استكمل حديثه قائلا: لكن الكتاب الذي ألقي عليّ ليس كالتوراة ولا الإنجيل ولا القرآن، تلك الكتب جميعا تحكي رواية طرف واحد فقط وهو نصف العدل، بينما ما بُعثت أنا به هو رواية الطرف الآخر، وهو تمام العدل، لقد بُعثت بكتاب إبليس الذي يرد فيه على الادعاءات التي وردت في الكتب الثلاثة!
مرت أيام من اللغط والسب واللعن، حتى أن الناس اجتمعوا عند حائط رمي الجمرات وراحوا يرجمون إبليسا حتى نفد الحصى من الأرض لمدة ثلاثة أيام متواصلة، وتم تدشين حملة مقاطعة للقنوات التي ساهمت في عرض ما يقوله الدجال، لكن الأمر لم يستمر طويلا، إذ بدأ الدجال يظهر ثانية ويعرض أجزاءً مما سماه «الرواية الكاملة» لإبليس، على عكس ما توقعه الكثيرون؛ صيغة الكتاب المُدّعى لم تكن تشبه صيغة القرآن أو الإنجيل أو التوراة، ولم يكن بكلام مسترسل، لقد كان على هيئة جمل منفية غير تامة:
«ليسوا ستة أيام»
«لم يسجدوا جميعا»
«لم ينشقّ»
«ليست عذراء»
والعديد من الجمل الأخرى التي لا تتم المعنى، لم يتم المعنى سوى تفسيرات المفسرين وتأويلات المؤولين الذين اجتمعوا على أن الكتاب المُدّعى ينفي كلام الله، لكنه لا يضيف جديدا.
أصبح الناس يدعون لمقاطعة حلقات الدجال بالنهار، ويسهرون أمامه بالليل، الرجل كان مشوقا وذو أسلوب جذاب بشكل يدعو للحنق، في حين أن قناة واحدة هي من تعرض حلقات الدجال كل ليلة، بقية القنوات تعرض برامج أخرى أصبح همها الشاغل هو ما يعرضه الدجال.. بعد قليل بدأت تلك البرامج بنشر أخبار حول ظهور أتباع لإبليس ومؤيدين له ولكتابه الذي بعث به، في البداية لم يهتم أحد بذلك الخبر، لكن مع تكراره ومع ظهور مداخلات متلفزة لهؤلاء الأتباع وهم ينتقدون القرآن ويشيدون بكتاب إبليس، بدأ الناس يغلون ويحنقون، ثم العديد والعديد من البرامج الحوارية التي تستقبل المؤيدين ومعهم المعارضين لإبليس، المؤيد ينتقد كتاب الله نقدا هشا ضعيفا، بينما المعارض يزبد ويرعد في كرسيه ولا يملك سوى أن تغلبه عاطفته، فيسب المؤيد وكتابه، فيبادله الآخر السب، بينما المُضيف يسترق رشفة من كوبه!
استمر الهرج بلا نهاية تلوح في الأفق، الأتباع يتزايدون داخل التلفاز لدرجة أن القناة التي تعرض برنامج الدجال بدأت تعرض حصرا يوميا في أسفل الشاشة لأعداد الناس المؤيدين الذين يوثقون تأييدهم بالرسائل.
على أرض الواقع كان الطلاب والمدرسون في مدرستي في حالة تأهب وغيظ مكظوم، كنا كلما اجتمعنا في الفسحة، يأتي الشيخ فيمسك القرآن ويقبض عليه بيديه ويبدأ في التلاوة ونحن نردد خلفه؛ فنهز المدرسة بأصواتنا التي كانت تبلغ حد الضجيج أثناء الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وفي موعد صلاة الظهر يدق جرس في المدرسة مقاطعا الحصة، فنهب جميعا للصلاة في مسجد المدرسة.
في تلك الأثناء، قمت أنا وزملائي بتشكيل لجنة تترصد بعض الطلبة الذين يبدو عليهم التكاسل في الصلاة أو أثناء الترديد خلف الشيخ، فرحنا نحاصرهم في الزوايا ونستجوبهم ما إذا كانوا من أتباع إبليس أم لا، كنا نبحث عن أتباع إبليس في المدرسة كل يوم فلا نعثر على واحد، بينما الرقم على شاشات التلفاز يزداد كل يوم، ويزداد الحنق، إلى أن ظهر على القنوات شخص لم يرد ذكره في أي وقت سابق، ظهر وقد عرفوه بأنه عالم في القرآن الكريم، جاء ليرد على ادعاءات الدجال.. بدأ يظهر بوتيرة ضعيفة راحت تتزايد مع الوقت، كان الرجل ذو هيبة وملامح وقورة هادئة وردود عقلانية، وأسئلة معجزة كانت تصدم أتباع إبليس في كل مرة.
بدأ اسم الشيخ يتردد في الأنحاء، والناس تنادي بلقاء يجمعه بالدجال في برنامجه الليلي كي يرد كيده في نحره، ثم ازدادت شهرة الشيخ حتى بلغت شهرة الدجال نفسه، حتى كان اللقاء، حضر الشيخ إلى برنامج الدجال وجلس في كرسي أمامه، في تلك المرة ظهر الدجال منفعلا على غير عادته على عكس الشيخ الهادئ الواثق.
دارت ملحمة تشبه المبارزات في الأفلام، هذا يقول والآخر يرد؛ فيزداد الأول غيظا! وفجأة، يبدأ الدجال في التوسل إلى الشيخ بتركه وشأنه، فيحدجه الشيخ بنظرات قوية ثاقبة ويقول: أبدا لن أتركك، ثم راح الشيخ يتلوا آيات من القرآن بينما الدجال يبكي ويصرخ حتى فقد وعيه!
بعد الفاصل ظهر الشيخ وهو يجلس في مقعد الدجال، بينما الأخير جالس على كرسي أمامه وهو في حالة صدمة كمن أفاق من غيبوبة، راح الشيخ يسأله عن صحته وحاله، فيجيب الرجل بأنه الآن فقط أصبح بخير، وقد استعاد نفسه أخيرا!
في نهاية الحلقة قام الشيخ واحتضن الرجل وطمأنه أنه خلصه من إبليس إلى الأبد وقد أصبح الآن حرا، أما الكتاب الذي كان يتلو منه فقد أحرقه الشيخ في خاتمة أثلجت صدور كل المشاهدين بلا استثناء.
بدأت الأمور تهدأ بعض الشيء خاصة بعد تولي الشيخ للفقرة الليلية بدلا من الدجال، وقد تغير اسم البرنامج وتغير الديكور إلى آخر مريح بعيدا عن الأجواء المظلمة التي كانت تصاحب الدجال، كان الكل يسمع الشيخ بقلب وعقل مفتوحين يرمي فيهما الشيخ بما يشاء ولا أحد يجرؤ على مناقشته في أي مما يقول.
بعد ستة أشهر أصبحنا نصلي في اليوم ستة فروض بالإضافة إلى ابتهالاتنا كل ليلة في المساجد كي يحفظ الله الحاكم ويعينه على إصلاح الشعب والقضاء على معارضي الشيخ!