اللوحة: الأمريكي فريدريك آرثـر بريدجمان
هناء غمراوي

كانت عمتي الصغرى في بيت جدتي التي رحلت قبل أن أتم الخامسة، وقد أنجبت جدتي من الذكور سبعةً ومن الإناث، ثلاث. كان اسمها حسناء، وكانت حسناء الوجه، طيبة المعشر بشوشة الوجه غالباً.. لم أذكر أنها زجرتني يوماً في حياتي ولأيّ سبب من الأسباب!
وكنت في طفولتي قليلة التردد إلى بيتها، وكانت زياراتها لنا أقل، ومع ذلك حملت لها في قلبي الكثير من الحب، ما دفعني مستقبلاً الى المواظبة على زيارتها والسؤال عنها رغم مشاغلي الكثيرة مع الوظيفة والعائلة الكبيرة.
عانت عمتي حسناء من اعتلال في صحتها ما جعلها ترقد أحياناً فترات طويلة في المستشفى، للحصول على العناية الطبية اللازمة. فقد أمضت أكثر من نصف حياتها بكلية واحدة بعد أن تم استئصال الأخرى بسبب تراكم عدد كبير من الحصى فيها ما أدى الى تدميرها كلياً.. لم أسمعها يوماً تشكو أو تتذمر.
حب عمتي الذي حملته لها منذ الصغر أفرخ لاحقاً علاقات طيبة مع بناتها وأبنائها تميّز عن علاقتي بباقي أبناء الأعمام والعمّات، عندما أغوص في الذاكرة، أعود طفلة لم تتم عامها الخامس بعد، فرحة بالوعد الذي قطعه لنا الوالد بزيارة عمتي نهاية الأسبوع في بيت الجبل حيث كانت تصطاف سنوياُ هناك. وكنا نحن نزورها مرة واحدة كل صيف، هناك كانت العائلتان تجتمعان لأيام قليلة حيث كانت أمي تعد لنا الكبة اللبنانية بمساعدة عمتي وبناتها، كانت اقامتنا القصيرة جداً لا تخلو من فرحٍ غامر وسعادة حقيقية، حيث كان إخوتي الذكور ينطلقون إلى بساتين التفاح والخوخ المحيطة بالمنزل للتنزه مع أبناء عمتي الذين يماثلونهم في السن، وليتصيدوا العصافير الصغيرة بالنُّقيفة*، لأنه كان من غير المسموح لهم استعمال بندقية صيد حتى ذات الحبة الواحدة، وكنت أتنعم بجو الصباح المائل قليلا الى البرودة المنعشة وأنا أتسلى ببعض الألعاب الطفولية مع أصغر بنات عمتي «ذكاء» والتي كانت بدورها تصغرني سناً. هذا الجو المنعش الذي كنا نفتقده في صباحات الصيف القائظة نحن سكان الساحل.
اجتمعت العائلتان في أحد الصباحات يوماً في بيت الجبل لتناول الفطور، فاقترحت إحدى بنات عمتي ان نعدّ الشاي في طنجرة صغيرة لأن عددنا كبير، وإبريق الشاي لن يكفينا، ولما لم تلق موافقة على عرضها، هدّدت بأنها ستتناول كوبين من الشاي وضحكنا كثيراً.. ابنة عمتي نجاح كانت تشبه والدتها، وكانت طيبة السريرة، صبوحة الوجه، تلازمها ابتسامة تزيد وجهها إشراقاً.
رحلت عمتي، وكان قد سبقها والدي ووالدتي بسنوات.. يوم رحيل عمتي بكيت بكاءً مراً، فقد شعرت أنني في تلك اللحظة قد كبرت مئة عام! سقط آخر عنقود من كرمة جدتي فاطمة، وهوت آخر شجرة من بستان الليمون الذي غرسه جدّي محمود قرب الشاطئ، وفقدت أنا الظل الذي كنت أتفيئه كلما اشتد حر الظهيرة.
*النُّقيفَة: أداة صيد بدائية كان يصنعها الأولاد باستخدام شرائط من المطاط لقذف الأحجار الصغيرة لصيد العصافير عن الأشجار.