إنا رَادُوهُ إليك 

إنا رَادُوهُ إليك 

سيناء الروسي

اللوحة: الفنان الأسكتلندي تشارلز كاميرون

إشعارُ رِسالةٍ على هاتِفِهِ؟ قرأ شزرًا الجُزءَ المُتاحَ منها، ثم ضغط على الأيقونةٕ ليقرأ:

أنا حاملٌ في الشّهر الثاني، غَدوتُ خائفةً كثيرًا، يجب عَليكَ أن تجدَ حلًا قبلَ وقوعٕ الكارثةٕ!

اجتاحَ الصقيعُ أعماقَهُ، بألوانِ الحيرةِ، صُبِغَ وجهَهُ، الأمر الذي جَعلَ والدَهُ يَنكزُ مرفقَهُ بحركةٍ مباغتةٍ، قَطَعَ بها تَسلسلَ أفكارِهِ التي غَيبتهُ عن المكانِ، انتابَهُ الشَّكُ لحظةً بالمبالغةِ أو الكذِبِ، لم يكن يتوقع حدوث ذلك وفي هذا الوقت بالتحديد!

-أَمجدُ، ما الذي حدث لك؟ وجهك يبدو مُصفرًا ومَخطوفًا؟ سألَهُ بِارتيابٍ.

– لا شيءَ أبي، لا تقلقْ، مُشكلةٌ صَغيرةٌ مع أحدِ الأَصدقاءِ.

– أعطني بِطاقتَكَ يا أمجدُ «قالها شَيخٌ كان يَتوسطُ المَجلسَ»

– تفضل.

أَصواتُ الزَّغاريدِ، وَصوتُ أيوب طارش يَصدحُ مِلءَ الزمانِ والمكانِ.. زُفُوا عُطورَ الكاذيةِ، وكَذلكَ هَنُوا لقلبي عند قلبي ضيوووف.. كانت مَقَاطِعُهُا الصَّائتةُ والصَّامتةُ تتدافعُ في صِوانِ أُذُنيها، لكنها لم تُحرّك سَاكنًا، وكأنَّ الأمرَ لا يعنيها البتةُ. كانَ لديها ما يُدربكُ بالَهَا حقًا ويؤثر سَلبًا على حياتها جُملةً وتفصيلًا، حياتها تلك التي هدمتها نَزوةٌ عَابرةٌ. بَينَ اللَّحظةِ والأخرى كانت تَتحسسُ بطنها بِأَصابع يدٍ مُرتجفةٍ بإيقاع مرتبكٍ وانفِعالٍ، تبكي بِصمتٍ وبلا دموعٍ، تَزدادُ توترًا عندما تُحدقُ مَلياً نحوَ اللاشيء، وببساطة سيدركُ من يُرَاقِبُها أنها تُفكرُ كَيفَ سَتؤولُ الأُمورُ لاسيما أمورُ تَجاهلِ أمجد وعدم اكتراثه لما يحصلُ معها أو تُعانيهِ بَصَرُهَا كَانَ مُتجهًا صَوبَ مصيبتها التي انزَلَقت – على عَجلٍ – عَميقًا في أغوارِهَا. 

 تناهت إلى سمعها طرقاتٌ على بابِ غرفتها، وفَجأةً تدلف أختها، فَضَّت حَاجزَ الصَّمتِ وسَحبتهَا من غَيابةِ تَفكيرٍ مُضنٍ وبَعيدٍ

– نعم سارة. 

– ماذا هناك؟

– أمجد ابن جارنا عَقدَ قرانَهُ اليَومَ على ابنةِ عمِهِ.

– ماذا تَقولينَ؟ من أَخبركِ بذلِكَ؟

– والدته، إنها الآنَ مع أمي في المَجلِسِ، إنَّهما سَعيدتانِ لِلغايةِ كما يبدو بهذه المُناسبةِ.

 تدور الأرض من تحت أقدامها، تغيب عن المكان.. وتحدثُ نفسها شَاردةً هل كُنتُ أَتوهمُ العشقَ المُنبثقَ من عَينيهِ؟ أم تراهُ يتقنُ أداءَ الأدوارِ إلى حَدِ التَّقمصِ وعودهُ المُتكررةُ بزواجِنَا هل كانت هي الأخرى محض افتراءٍ وكَذبةٍ زَائفةٍ. يا رباهُ أيعقلُ أني كُنتُ مُجردَ لُقمةٍ صَائِغةٍ لم يَتوانَ بالتلذذ بها ودَهسِها بِقَدَميهِ. أصارع مصيري كنتُ ولا أَزالُ بعد أن انتهيت من تُخمةِ تناولك إياي.

 تُجرجرُ أوجاعها والخَيباتُ تحيطها من كلّ حَدبٍ، دموعها بِغَزارةٍ تَنهمرُ ولا تَتَوقفُ، قررت مُهاتفةَ أختها التي تَسكنُ في مَدينةٍ أخرى وأخبرتها بأنها سَتستقرُ في منزلها بضعةَ أشهرٍ، كانت هي الأخرى تَتأكلُ من فرطِ القلقِ والحيرةِ، فثمةَ بَحةٌ وتَهدجٌ في صَوتِ أختها على الضّفةِ الأخرى من المُكالمةِ، فقد كانت تهاتفها بصعوبةٍ تَنمُّ عن وَجعٍ كَبيرٍ ومُشكِلةٍ مُدويةٍ مُحتملةِ تنذرُ بٍكارثةٍ وَشِيكةٍ.

– ما الذي تقولينَهُ؟ أينَ كانَ عَقلُكِ؟ 

– يَجبُ عليكِ التخلص من الجَنينِ قَبلَ أن يَتخلصَ هُوَ مِنكِ؟ 

– يَجِبُ أن تُجهضيهِ 

– لا أَستطيعُ؟ كيف أُواجهُ ربَّ السَّمَاءِ بِوجهِ قَاتلةٍ و…؟

– هل تُفكرينَ الآن بِربكِ؟ أينَ كَانَ ربكِ عندما ارتَكبتِ هَذهِ الحَماقةِ؟ وجعلت وجوهنا جميعا بين الأَحذيةِ، ثمَّ ماذا لو عَلمَ كلُّ أَفرادِ الأُسرةِ؟ ألم تفكري بهم وبنا قَبلَ وُقوعِكِ بهذِهِ المُصيبةِ؟

 طأطات رأسها بِخجلٍ وخزي من فعلَتِهَا! ألا يكفي أن أَتحمَّلَ ذَنبًا واحدًا على كاهلي يا رب؟ 

 بَعدَ أيامٍ عَاودتِ الاتّصالَ بأمجد وكَالعادةِ يَرتدُ صدى الخُذلانِ من جَوالِهِ الرَّقمُ الذي تتصلونَ به مُغلق حَاليًاهمس السارد فيما وراء هذه السطور لكنها مع ذلكَ أعدت حَلًا لِهذِهٍ المَتَاهةِ في السردِ.

ذَاتَ كَشفٍ، وأَثناءَ خُرُوجِ المُصلينَ من المَسجدِ، بالتَّحديدِ الزمني الملائم لِلسردِ، بَعدَ صَلاةِ الفَجرِ لَمحَ أَحدُهُم شَيئًا مَلفوفًا بِظلماتٍ ثلاث، وَقَبلَ أن يَتقدمَ إِليهِ، كان أَمجدُ قد فَتحَ أغطيته:

– طفل.. طفل قالها بينما كان يُطوّحُ بِهِ في الهَوَاءِ ويسندُهُ بِذرَاعيهِ.. كَانَ لِقَاءّ نُورانيًا إلى الحَدّ الذي شهقت معه السَّماءُ فأَضَاءَتِ الأرض وهَطلَ غَزيرًا المَطَرُ.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.