شيخ

شيخ

هيام علي الجاويش

اللوحة: الفنانة الكويتية هاجر عبد الرحمن

صديقي..

إنها رهف.. وكلما تقدمتْ في العمر تُضعفها السنون والتجارب بدلا من أن تقوّيها، بسطت يدها اليسرى واحتضنتها بالأخرى ممسّدة راحتها مارّة على أصابعها، واحدة واحدة، مقلبّة إياها، مؤكد إنها لا تبحث عن شيء إنما تخفي ارتباكا.

نظرت إلي بعينين ثابتتين كمن صمّم على فعل شيء وسألت: هل أتخلى عنها؟ يا لهذا السؤال الذي كررته عليّ عشرات المرات، وفي كل مرة كنتُ أجيبها: لا. استمعت ولم أجب. تابعت: الجميع ينصحني بالتخلي عنها، فالذين تخلو عنها كُثر، وأنا لن أكون أولهم ولا آخرهم، وكذلك الأمر، كلّ منْ تخلى عنها أراحها واستراح! وبعد فترة صمت قالت: أنا أحب أن أحتفظ بها وأناضل من أجل ذلك أسهر ألملم جراحها، أحميها وأقويها.. لكنها تُضعفني وتضعف.. تُبكيني وأبكيها..  تُتعبني، وتتعب.

لم أجب ولكنها ظلت صامتة كمن ينتظر جوابا، فقلت بعد تردد: اسألي أهل الذكر!

وجلت وتردّدت فكيف يمكن أن تطرح مشكلتها على أيًّ كان؟ وبعد حين ذهبت إلى شيخ جليل سألته شاكية باكية، طالبةٌ للنصح، هدأ هذا من روعها، وفتح دليله مقلبا إياه، وبعد طول وقت نظر إليها بعينين حائرتين، رافعاً حاجبيه ماطّا شفتيه 

قائلا: يا بْنَتي لم أجد في الدليل أية إشارة لذلك.. لكن بالقياس أقول إمّا إمساك بإحسان أو تسريح بمعروف، فإذا كنتِ لا تستطيعين حمايتها فتخلي عنها.

خرجت من عنده وهي تقول في سرّها: تبا له من شيخ، لن أتخلى عنها مهما حصل وهذا قرار. ولكن الجميع وبكل ما أوتوا من قوه وشراسة، وهي بكل ما أوتيت من صبر وتحمّل استطاعوا ان يسلبوها إياها.

وأنا يا صديقي، أعاني مما عانت، وأسأل: هل أتخلى عنها قبل أن يسلبوني إياها؟ وأسأل أيضاً كيف يمكن للحياة أن تستمر بدون كرامة إن تخليت عنها أو سُلبت إياها؟

تاء التأنيث  

صديقي.. 

 تتمنى أن تصبح مثلها بعد أن كانت تزدريها، لقد كانت سوزان تنظر إلي رهف بعين الشفقة وأحياناً بعين الازدراء، أو بعين الدونية، وأحياناً بعين الانتقاص، أو بعين الاحتقار وأحياناً بعين الجهل، ومرات كثيرة بعين التخلف أو بعين الكبت، أو لنقل كانت تنظر إلى رهف بكل هذه العيون، وكانت شغلها الشاغل, وما أن ترى سوزان خطيبها حتى تبدأ بالحديث عنها.. فمثلاً كانت تقول له: رهف مبرمجة، وكأنها تقول لزوجها أضغط على الزر الذي تريد، لا تفكر مطلقاً، وتفعل كل ما يطلبه زوجها دون نقاش أو تذمر.. وعندما أقوم بنصحها تقول: هكذا أفضل، أو تقول إن زوجها لا يحب المجادلة، أو تقول لقد تعودت عليه، أو تبرر بأنها تحبه وتسعى لإرضائه، ودائماً تثني على كلامه وتصرفاته، وهو ينتفش كديك رومي. وعندما أنبهها وأقول: ألا تعرفين غير نعم وحاضر، لم لا يكون لك رأي أو موقف. تبتسم وتقول: هكذا أفضل.

وكان خطيبها يقاطعها ويقول: حبيبتي مالنا بأولئك الأوباش الجهلة، ماذا يفقهون من الحياة؟ وما هي الثقافة التي يملكونها؟ وما هو العلم الذي تعلموه؟ ومن أيّ جامعة تخرجوا؟ لنا حياتنا ولهم حياتهم، والتي لا تستطيعين تغييرها بعدّة كلمات، فتغيير حياتهم، يحتاج لتغيير عقليتهم. وكان يقول لها: هيا حبيبتي سوزان حدّثيني عني وتحدثي عنك، تكلمي لأسمعك.. ما هو الأفضل من وجهة نظرك؟ ما الذي تحبينه؟ ما الذي لا تحبيه؟ ما الذي يسعدك؟ ما هو رأيك؟ اتمنى أن تشاركيني كل تفاصيل حياتي حتى ثيابي وربطة عنقي، أفكاري وأصدقائي.. إلى ما هنالك من هذه الكلمات والتي حفظها الذين سافروا، وخالطوا وأطّلعوا على ثقافات أخرى. 

ودائماً كان ينادي بالتحرر والمشاركة والمساواة، ويزهو بنفسه، وتطيب لها الحياة. وكما في كل الأمور فإن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر، ورغم الشرط الذي كان في الحقل حدث القتال على البيدر، وعندما كانت تذكره أو تعاتبه فكان يقول لها هذا غير ذاك هذا أولاً، والنظري في معظم الأحيان لا ينطبق على العملي هذا ثانياً. اسمعي جيداً.. ليس تقييداً ولا انتقاصاً، يجب ألا تتصرفي بشيء دون العودة إلىّ، أيعقل أن يجري شيء في بيتي دون علمي؟ ويجب ألا تأخذي قراراً بمفردك مهما صغر أو كبر، فقد يكون لي وجهة نظر مختلفة، فقرارك يجب أن يطابق قراري.. عندما أتكلم أصغي ولا تقاطعيني، ولا تنشغلي عني، أيعقل أن تستخفي بحديثي؟ وإذا لم يكن لديّ رغبة في سماع حديثك اصمتي.. أمن اللائق إجباري على سماع ما لا أحب؟ إذا كلمتك وسألتك لا تصمتي، تكلمي.. عبّري.. 

تفاعلي.. أنسيتي أن الحياة مشاركة؟        

إذاً.. لا تصرف ولا رأي ولا كلام ولا صمت، فاستكانت وهدأت، لم تعد تريد تحريك التاء لا بالضم ولا بالفتح، فقط تريد الحفاظ على السكون فوق هذه التاء خوفاً عليها من الكسر.      

 لا تحزني عزيزتي.. المشكلة ليست فيكِ ولا فيها، المشكلة عربية! صوغ كلام، وكلام بلا فعال، عزيزتي إنها تاء التأنيث الساكنة! لا تبحثي كثيراً عن الحركات, يوجد منها في لغتنا ما لا يرضي  حركات الكسر لأفعال الأمر.

رأيان على “شيخ

  1. المشكلة عربية! صوغ كلام، وكلام بلا فعال، عزيزتي إنها تاء التأنيث الساكنة! … روعة

    إعجاب

اترك تعليقًا على هيام علي الجاويش إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.