عنب الحُبّ المعتّق

عنب الحُبّ المعتّق

نورا احمد

اللوحة: الفنان الإسباني أنطونيو فويرتس

يقول المثل الدارج “أكل العنب حبّة حبّة” ويشير إلى عدم التسرع وضرورة التأني عند الإقدام على أمر ما.

الحب كفكرة مؤنسنة ما هو إلّا إنسان حي يتنفس ويمشي، ينام ويعتلّ، يأكل ويشتهي، بإرادة حرة وبوعي أعلى من وعينا. وصلت لهذا الوصف بعد أعوام طويلة في تأمله. من منظار تجربة شخصيّة كابدته فيها: قهرني، صنعني، أدهشني بي وبالكون ككل، وتلذذت بالحياة بصحبته. ومن خلال الانصات لتجارب المحيطين بي. وقراءة ما قرأتُ ابتداء من (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) وعمري آنذاك ٢٤ عاما وانتهاءً بـروايات كثيرة عربية، محليّة، وعالمية. وإن كنت قد نسيت معظمها إلّا أن ذاكرتي استعارت حين كتابة هذا النص بلا شك كل تجارب أبطالها واحتفظت بانطباعات كثيرة في سياقات إنسانية، اجتماعية، سياسية، وعاطفية، وربما اتّحدت ذاتي معهم في مرات مختلفة من حياتي. ومما تحفظ ذاكرتي السمكيّة ما قاله ابن الجوزي عن سبب العشق: “سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه، وأكثر أسباب المصادفة النظر ولا يكون ذلك باللمح، بل بالتثبت في النظر ومعاودته، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس ورامت القرب منه، ثم تمنت الاستمتاع به؛ فيصير فكرها فيه وتصويرها إياه في الغيبة حاضراً وشغلها كله به؛ فيتجدد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى وكلما قويت الشهوة البدنية قوي الفكر في ذلك”. ولا أنسى حين قراءتي لهذه الكلمات كم امتننت لتربية والديّ لنا وتأكيدهما على غض البصر وقيمٍ أخرى كثيرة لحفظ القلب من الوقوع في شرك الهوى!..

بالعودة الى إنساننا المخترع (الحب)، لاحظت سمة مشتركة لدى كل من دخل هذا الكيان الى حياته! الجميع يشعرون في مرحلة ما من مصاحبته بلذة متفوّقة لا يذوقها إلا شارب الخمر! وهذا مما عجبت له أشد العجب. فلو لم يكن هذا (الحب) ذكيًا لما تمكن من أن يسقي الكل خمرته وكأني به يملك مخزون عنب بشري بحجم العالم في حدائقه اللا مرئية مثله، ولديه عمّال كثُر لا يتوقفون عن الزرع والرعاية والحصاد ومن ثم القطف والعصر والتعتيق في سراديب مخفيّة!

وإذا ما حان الوقت ليسكر الواحد منا به، سقانا خمرته فانتشينا كأن لا أمس كان ولا غد في الحسبان، ولا يعود هناك ما يعنينا سوى الآن، في اللحظة الراهنة، والمحبوب، وكل ما يتعلق به من شأن!

لذلك خمّنت وافترضتُ أنه كإنسان لا يأكل إلا العنب! بألوانه طبعًا. وربما يعاملنا آخذًا بالمَثل المذكور في بداية هذا النص. فهو يأكل وجداننا وعواطفنا وقلوبنا (حبّة حبّة) وعندما ينتهي من أكل عنقود عنب يخصنا ويفرغ منّا، تُصيبنا سكرته. وسأحاول تفصيل رقة هذا الكيان ووحشيته معنا في آنٍ حين يأكلنا! وحين أصفه بكل هذا التناقض فلا جديد لدي أقدمه، وربما يقرأ قارئ هذا النص وهو ثمل يترنح بكأسه، ولا بد سبقني سواي وان كنت لا اعرف إلا ما قاله محمود درويش: “إنه قاتل … بريء”.. 

ولوصف كيف يأكلنا الحُبّ نتصوره ملك متوج على عرشه ندين له بالولاء، ولا يتمكن أحد منّا أن يتمرد عليه أو يرفض حكمه، محتال يختارنا ويتسلل بهدوء الى أعماقنا.. من منّا لم يجرب أن ينام خال البال ثم يصحو وقد أُخِذ كله نحو آخر! 

وهذه خطوته الأولى؛ ثم يتناول عنب الانجذاب يأكله فتنتبه لوجود هذا المُختار الذي سينتبه لك بالمقابل، والذي سوف تتدرج في معرفته حتى يصير هو أثيرك وتصير أنت خاصّته!

العنبة التالية هي عدم قدرة الواحد على تجاهل رغبته بمعرفة المُختار والتقرب منه. وهذا فخ إذا نجوت منه يا ابن امّي فأنت الناج وربي، وإذا لم تنج منه فما يتلوه قلّ أن يخرج منه أحدٌ إلا وقد أُكل كامل عنقوده.

حسنًا، أنت الآن منجذب واقتربت. إن استحسنت مُختارك واستحسنك فتأكد أنك ستعطي العنبة الثالثة طوعًا، لأن هذا الاستحسان طريق متفرع لاتجاهين: صداقة أو صاحبنا في هذه المقالة (الحب). 

إن اخترت الطريق المؤدي للصداقة أحييك، أنت ذكي جدًا. وأما إن استسلمت للحب فابدأ بتجهيز عنبك ليأكله الحب هنيئًا مريئًا!

خطوته التالية بعد أن تكون قد صرت مُحبّا محبوبًا هي أن ينمو هذا الشعور ويتضخم حتى يصغر قلبك عن حمله، وتقول ما قاله كافكا: “قالت أحبك، فخرجت الى الشارع فسماء الغرفة لم تكن تكفي لتحليقي”! ويجر هذا الحُبّ معه لوازمه من شوق وهيام ووجد ورغبة وغيرة.. وبالطبع نشوة تذهل المرء وهي سكرات الحُبّ؛ والتي إذا تذوقتها فمن المؤكد أن الكثير من عقد العنب خاصّتك سيكون قد انفرط حينها.

ما بعده كما نعرف في غالبية قصص الحُبّ هو عتبات النهاية والخروج من الحُبّ. ومع تنوع الأسباب إلّا أنه سينتهي، فحبّ ينتهي بخيانة، وآخر يحز عنقه سكين الروتين ومشاكل الواقع، وثمة حُبّ ينتهي بسبب العادات أو الغيرة، وحبّ يغادر فيه الحبيبان بعضهما انحياز للنرجسيّة. 

سينتهي هذا الشعور الأجمل على كل الأحوال.. هل تعرف لمَ؟ لأن هذا الكيان الذي تدعوه حبّ أنهى عمله معك وسيذهب لسواك الآن. هكذا بعد أن أكل عنب عواطفك (حبّة حبّة)!

بوصولنا إلى هذه النهاية المحتومة لهذا الشعور الحتميّ، أستطيع القول أن لهذا الكائن خمرة يصنعها من عناقيد عنب تخص البشر. 

فلا تتوقفوا عن كونكم أنتم يا معشر البشر الموردين، وعمّاله المخلصين، ومراقبي سراديبه السريّة. استمروا بتجربة الحُبّ واشربوا خمرة عنبكم المعتّق من قبل إنسان “مظلم، معتم.. ويضيء” كما قال درويش الحبيب.

رأي واحد على “عنب الحُبّ المعتّق

  1. يقدم لنا الحب حبة حبة، يعطينا الفرصة لنستمتع به ونتذوقه ببطء، ولا نتسرع في الإقدام على الأمور. فالحب يحتاج إلى وقت وجهد لينمو ويزدهر، ويحتاج إلى تعبيرات وحركات صغيرة ليظل متواصلاً وحيًّا دائمًا.

    ولهذا السبب، يجب علينا أن نتعامل مع الحب بحذر وحذر. علينا أن نتأكد من أننا نحافظ على صحة العلاقة ونحميها من العوائق والتحديات التي تواجهنا. يجب أن نتعلم كيف نتعامل مع شركائنا في الحب، وكيف نظهر لهم الاهتمام والاحترام.

    في النهاية، يجب أن نقدر الحب ونبتعد عن التسرع فيه. يجب علينا أن نعيش اللحظة الآنية ونستمتع بالعنب حبة حبة، ونصنع من الحب جسرًا للتواصل والإيمان بأن الحب يستحق كل جهدنا ووقتنا.

    انتي مدحتي الحب وذكائه وفي نفس اللحظة قمتي بذمه ، مبدعة دائما يانورا.

    إعجاب

اترك تعليقًا على غير معروف إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.